
بقلم : سيلينا السعيد
الفن ذاكرة الشعوب وصوت الأمل..
في كل مرة يصدح فيها صوت نقيّ من أعماق الوجدان، تنبض ذاكرة الشعوب، وتستيقظ الحكايات التي خبأها الزمن بين ثنايا الأيام. الفن ليس مجرد نغمة عابرة، ولا لونًا يذوب مع تعاقب الفصول، بل هو ذاكرة خالدة، روح تتوارثها الأجيال، وصوت يحمل الوطن على جناحي نغمةٍ لا تعرف الفناء.
التكريم لا يقتصر على تصفيق حار أو درع يُرفع فوق المنصة، بل هو احتفاءٌ جماعيٌّ بالهوية، واستعادةٌ لمشاهد عالقة في القلب، تشبه بغداد حين تحتضن صباحاتها، وكردستان حين يهمس هواؤها بأغنيات الأجداد.
عمار الكوفي لم يكن مجرد صوت، بل كان وطنًا يتجول بين الحناجر، وحنينًا يسكن القلوب. في صوته تلتقي الأزمنة، يعانق الحاضرُ الماضي، ويفتح باب الذكريات لمن يبحث عن نفسه وسط ضجيج العالم. إنه الصوت الذي يُعيد تشكيل تفاصيل بغداد، بزحام شوارعها العتيقة، برائحة المطر على أرصفتها، وبدفء المقاهي حيث يختلط الحبر بالحلم، وحيث يظل العراق حيًّا في أغنية.
حين يتحدث الإعلام عن فنان بهذا الصدق، وحين تُكتب عنه عشرات المقالات ويشتعل اسمه في فضاءات التواصل، فإننا لا نحتفي بفنانٍ واحد، بل نحتفي بإرثٍ موسيقيٍّ لم يُطفئه الغياب، وبوطنٍ ما زال يغني رغم كل شيء. فالفن وحده قادر على أن يعيدنا إلى أنفسنا، إلى تلك اللحظات التي سكنتنا يومًا ولم نستطع الإمساك بها.
تكريم عمار الكوفي ليس مجرد لحظة في تاريخ الفن العراقي، بل هو شهادة بأن الأغنية الحقيقية لا تموت، وبأن الحنين لا يشيخ. لأن الموسيقى ليست مجرد ألحانٍ عابرة، بل بيوت نسكنها كلما أرهقتنا الغربة، وملاذٌ آمن حين نبحث عن أوطاننا في النغم.
سيظل صوته جسراً بين قلوبٍ حملت العراق في عروقها، وبين حلمٍ ممتد من دجلة إلى جبال كردستان، يردد أن الفن لا يعرف الحدود، وأنه أقوى من كل المسافات.
コメント