بينما كنت أسير في تبليسي "عاصمة جورجيا" ، في جو بارد ، وبالتحديد في حي راستفولي ، الحي الأكثر ثراء، إذا ما قارنّاه بالأحياء الأخرى ، وأستمع إلى أغنية للسيدة فيروز ، مرددة فيها : "احكيلي عن بلادي..احكيلي" ، كانت الساعة - آنذاك – تشير إلى الرابعة فجرا ، كان ذلك في يومي الثاني من مغادرتي الوطن ؛ كل ذلك كان يحدث بسجيته من دون أن يصدر مني تسلط الحياة العابثة ، وأنا المارّ بينهما ؛ وفي وسط الشعب السوفيتي الذي لطالما تصدر الجورجيون مكانته بتنصيب ستالين ، الذي هو الآخَر رمز الاتحادية السوفيتية .
كل شيء بدا مختلفا ، لا فجر بنداء العصافير ، ولا زقاق تنصب فيها القهوة برائحة الزعفران ، ولا بساط يحمل العجائز العاطلات عن الحب ، لفترة مؤقتة شعرت بفارق ذلك ، نسبة لإلى قريتي البسيطة، ومع كل ذلك سارعت بالسير - من دون أن أحدّث أحدا - باتجاه الفندق الذي أقيم فيه، حينما وصلت إليه بدأت أشعر بالرهبة، كأني أصل إلى تابوت ؛ فحدثت موظفة الاستقبال عن دولتها وحياتها الخاصة والعامة ، فرحبت بي بكل ثقة، من دون النظر الى ما يفعله الإسلاميون من قتل وذبح، فسألتني في البداية : ما شأنك هنا ؟ فأجبت بكل خجل : لقد ضجرت من الحياة المعتادة ، وأرغب في التغيير من طقس ومن رؤية المحجبات ؛ فقالت شؤونك أشبه برجل بلا هدف ؛ فبدأت تحدثني عن ما يسمعوه عنا في الإعلام الصوتي والمرئي ، وعن أحداث الإسلاميين وكيف يتصارعون مع الإنسانية ، فقلت لها وبكل ثقة : أنا لست منهم ، فنظرت إلي باشئمزاز : إذن ما دينك ؟ فاخبرتها أن ديني هو حب الله والإنسان ؛ قالت : هل هنالك دين هكذا ؟ أرشدني إليه، فنحن سئمنا تسلط الكنيسة علينا ، وتمثيل الدين بصورة وصائية ، فضحكت بصوت عال ، وقلت بصوت المجنون : يا لها من نصر يا كومة القش المحترقة ، وحدثتها عن دين الله ورسوله بالحب والجماليات الروحانية ، وتناولنا حديثنا بالصوفية والعرفان ، ففرحت، فقالت : كم أنت رائع أيها العربي ؛ فشرحت لي ما لم تشرحه الإذاعات ووسائل الإعلام ، ثم استأذنتني في استحياء قائلة: كن بخير ، واعذرني لاستئذاني ، ولكن الوقت انتهى في هذا المكان ، وحان الآن موعد رحيلي إلى المنزل ، فتوادعنا بحزن ، على الرغم من أننا جلسنا ساعة لا غير ، بعدها خلدت إلى النوم في الساعة السادسة صباحا ، منتظرا لقيا الإنسانة الأروع بإنسانيتها ، من دون أن أنظر إليها بنظرة الرجل الشرقي.
2)
صحوت في الثانية ظهرا، وشربت قهوتي على عجل ، لأن السائق اتصل بي في الوقت المحدد أن يمر علي ، إلا أن الرجل العربي لا يعتمد على الوقت ، ولا يلتزم به ، فسارعت جاهدا إلى ارتداء ملابسي ، وأخذت نفسا من الدخان ، وبدات في النزول إليه ، والتقينا ، حيث أخذني مايكل في نزهة حول قريته التي تدمرت إثر حرب الاتحاد السوفيتي مع الحزب النازي ، وصار يصف لي كيف كانت الحرب بحسب ما رواه له أجداده ، وصار يبكي بسبب الذكرى للتلك الروايات ، وسألني : لماذا لا يعيش العالم بسلام ؟ فدعوته إلى كوب من القهوة ، مع رشفة دخان ، على أن أقول له بعدها لماذا يا مايكل يا رفيقي في الإنسانية ؛ فذهبنا مشيا على الأقدام إلى مكان لشراء القهوة الساخنة في جو أشبه ببرّاد اللحم ، فاسترحنا على كرسيين من الخشب التقليدي ، وطاولة تكاد تحتوينا ، وبدأت بسرد رأيي في السلام الأبدي للعالم ، فقلت له : نحن من نشرنا الشر والدمار كبشر، لو تمَعَنّا في المناطق التي لم يصل إليها الإنسان ، لنظرت إلى أنها جميلة ، ولم تدمر إلى الآن يا مايكل ، كثيرون يرددون الشعارت ، بينما هم من يقتل شعوبهم بالطريقة التدريجية، فأين ستالين وهتلر وموسوليني وغيرهم من الطغاة الذين ناموا على أجساد الفقراء والبسطاء ؟ وأشرت إليه أنه ليس زمن تشي جيفارا ، الرجل الذي ضحى بحياته للقضاء على الظلم ؛ فاتفق معي على ذلك ، وصار مذهولا ، لأنني لم أجامله بستالين الجورجي الأصل، وقال لي: لماذا لم تطرٍ على ستالين وتلمّع صورته وأنت في دوله تحبه جدا ؟ فقلت له : يا مايكل لا أحتاج إلا أن أكون إنسانا .
3)
(الأشياء الأجمل تأتي متاخرة)، في يومي الأخير في جورجيا ، جلست في منتزه يقدم بعض المأكولات البسيطة مع القهوه ، وكان الجو شديد البرودة ، يرهقني على مهل، فأخذني التأمل إلى ماذا إن كنت أعيش هنا باستمرار في البرد المهلك لابن الصحراء ، نظرا لمعدل الدرجات الحرارية التي تغشى أيام بلدي الحبيبة ، ففي عمق التفكير الذي هام في مخيلتي ، مرّتني الصديقة في الإنسانية ، امراة في أواخر الأربعين، وجلست بالقرب مني قائلة: يا أيها العربي ، كيف حالك ؟ فانذهلت كيف عرفت ذلك ، هل هي من الموساد أم الـ اف بي اي ؟ تساؤلات وشكوك تدور في ذهني ، فأجبتها بكل خوف : من أنتِ؟ وكيف تتحدثين العربية ؟ قالت: أنا منفية من بلادي ومجتمعي الصبياني ؛ أصابتني الدهشة ، وبدأت أتحرك عقليا ، يا لها من أزمة أبدية تجتاحني ؛ سألتها : ما شأنك بالحياة؟ قالت : الإنسانية ؛ فقلت : ما ديانتك؟ قالت الله عزوجل ديني ؛ فقلت لها : أنتِ تحدثين الروح أم تفعلين ما يفعله المتناقضون؟ قالت: أنا روحانية الهوى، وأنبض بابن الفارض والحلاج والآخرين من العرفاء والصوفيين ، فبدا عقلي ينبض ضجيجا محدثا نفسه : أيعقل هؤلاء المسلمون المهاجرون لا يقتلون ؟ هل تأسسوا بأسس الحب والتآخي؟ بدأت بالتفكير بعمق ، فاستأذنتها على أمل اللقاء في حياة لا ظل لها ، وبدأت في المشي على نهر تبليسي في ممشى يتحدث باسم الحب ، واردد كلمة بالحب تحيا الحياة ، وديننا دين الحب ، ونفحات ترفع الإنسان نفسيا وخلقيا ؛ هكذا كانت الأيام الأكثر جمالا في حياتي .