أستيقظ مفزوعاً على رنين الهاتف.. عقارب الساعة لم تتجاوز السادسة صباحاً.. أخي الصيدلي المقيم في مسقط رأسنا.. قرية المعصرة، بلقاس، دقهلية يداهمني:
-أملاك الدولة قدرت المتر بـ 3500 جنيه !
-متر إيه؟
أسأل ورأسي ما زالت مضببة بالنعاس ليرد:
-أرضنا وبيتنا!!
-أكتب شكوى للوالي !!
صمت قليلاً.. دون أن يعي ما أقول.. ثم سأل:
-انت لسه نايم ؟!
ليلة أمضيتها منهمكاً في كتابة مقال حول الامبراطورية العثمانية.. تلك التي يسميها أتباع حسن البنا وغيرهم.. الخلافة الإسلامية.. ويتباكون سراً وعلناً على زوالها.. رغم أنها أحد أسوأ أنواع الاستعمار على مر التاريخ.. وكان أحد مظاهر قذارة الاستعمار العثماني هذا..جباية الأموال بأي وسيلة ..فاخترعوا مايسمى بوظيفة الملتزم في كل منطقة.. كان الوالي ينظم ما يشبه المزاد.. يتقدم خلاله مجموعة من الأثرياء البلطجية بعروض للضريبة المطلوبة في المنطقة.. فيختار الوالي صاحب العرض الأكبر، لتسند له جباية الضرائب.. بالطبع يدفع الملتزم مقدماً للوالي ويتولى تحصيل أضعاف مادفع من غلابة مصر بالتعذيب والتنكيل.. أما الوالي فلايورد لخزانة "أمير المؤمنين" في الآستانة إلا نصف ماتم تحصيله من الملتزم! لينفقه بدوره على جواريه وخصيانه..!
هل اختلط عليِّ الأمر فظننت أن أخي يحدثني عن الملتزم العثماني وليس عن موظفي أملاك الدولة بمحافظة الدقهلية ؟!!
أنْفضُ النعاس من عيني لتداهمني الحقيقة المؤلمة.. أن أخي يحدثني عن الألف متر التي أثبت جدنا الأكبر ملكيته لها بحكم من محكمة الاستئناف عام 1922.. إلا أن موظفي أملاك الدولة وعبر قرن لم يكفوا عن منازعتنا على الأرض.. ليخوض أبي وأعمامي معارك ضارية أمام المحاكم ضد الموظفين، وانتهت على ما أتذكر في سبعينيات القرن الماضي باعتراف الحكومة بملكيتنا للأرض، إلا "خفية مباني".. وحتى خفية المباني تلك بعد عشرات السنين تراجعوا عنها، حيث سرعان ما عاد "الملتزم العثماني" لسابق عهده القديم.. مصمماً أن الألف متر كلها أملاك دولة..غير آبه بما لدينا ولدى غيرنا من أهالي القرية من أوراق وأحكام..
ومنذ عهد المحافظ اللواء سمير سلام وأنا أطرق كل الأبواب مستكملا رحلة الجهاد المقدس التي بدأها جدي منذ مايقرب من القرن.. لأكتشف بغباء.. بعد كل هذه السنوات أن الأمر كله في قبضة صغار الموظفين.. وصغار الموظفين وحتى كبارهم.. كثير منهم في الحقيقة يجري تأهيلهم عبر دورات تدريبية ليمارسوا مهامهم بشكل نموذجي!! والشكل النموذجي هذا توضحه عبارة على سبورة القاعة التي يتلقى فيها الموظفون تدريبهم: "إزاي تطلع عين المواطن وعين اللي خلفوه!!"
مرة التقيت برئيس مصلحة أملاك الدولة في محافظة الدقهلية.. وبدا متفهماً ومتعاطفاً مع حالتنا.. وفتح لنا ما بدا أنه الباب المغلق:
-طيب هاتولي رسالة من مجلس مدينة بلقاس بالوضع دا.. والموضوع هيخلص إن شاء الله..
في تفاؤل هرعنا إلى مجلس مدينة بلقاس..لندرك كم نحن سذج ولاندري كيف تسير الأمور في الجهاز الإداري للملتزم العثماني.. قال لنا الموظف المسئول: أنا تحت أمركم.. بس هاتولي رسالة بكده من رئيس مصلحة أملاك الدولة بالمحافظة!!
سأله أخي في غيظ: يعني إيه رسالة بكده؟!!
فقال محافظاً على هدوئه ودون أن تبرح الابتسامة شفتيه: إني أعطيكم رسالة!!
عاد أخي إلى رئيس مصلحة أملاك الدولة في المحافظة.. فقال له دا حقكم.. أنكم تاخدوا رسالة من هناك ومن غير رسالة مني!!!
نصحت أخي برفع قضية.. مثلما فعل أجدادنا وأباؤنا.. رغم أنني غير متفائل.. لدى المصريين 60 مليون قضية متداولة أمام المحاكم.. فإن كان يتصارع في كل قضية طرفان" على الأقل"! فلدى كل مواطن قضية وأكثر متداولة أمام المحاكم..
وكارثة إن كان خصمك "الملتزم العثماني".. أقصد موظفي الحكومة.. فأنت تهدر وقتك ومالك وصحتك في الجري بين المحاكم.. ليس شهوراً ولا سنوات ولا عقوداً، بل قرناً كما هو الحال معنا..بينما لدى الملتزم موظفون ومحامون.. لا أحد منهم يتكلف مليماً ..ولا حتى في مواصلات.. سيارات "الملتزم" تذهب به إلى المحكمة وتعود به إلى منزله ..وربما ينسى أو يتكاسل عن التوجه إلى المحكمة لتؤجل القضية..فإن حكم القاضي لصالح المواطن الغلبان.. يسطر الملتزم العثماني مذكرة ببضع كلمات مسـتأنفاً الحكم ..فإن أنصفت المحكمة في الاستئناف بعد عقد المواطن..يكتب الملتزم العثماني أو خليفته في بضع دقائق مذكرة بالنقض.. أمور يفعلها الملتزم العثماني في دقائق ببرود ولامبالاة أما "عدوه" اللدود.. المواطن التعس.. فيهدر عمره في الدفاع عن البيت الذي ورثه أباً عن جد، ويستره ويستر أولاده.. أبي رحمه الله بسبب قضية أملاك الدولة هذه أصيب بالاكتئاب في أواخر حياته.. إلى أن فارق الحياة مقهوراً، بالطبع من جبروت "الملتزم العثماني"!!
وليته – الرئيس السيسي – يقرأ سطوري هذه..ليعلم أنني وأشقائي وشقيقاتي وغالبية أهالي قريتي المعصرة ،مثل عشرات الملايين من المصريين خرجنا إلى الشوارع لانتزاع مفاتيح الاتحادية من محمد مرسي وعشيرته وإعادته لأبناء مصر.. فإذا ب "الملتزم العثماني" يطل بوجهه الكريه مروجاً لنفسه أنه ممثل نظام 30 يونيو، وأنه ينفذ تعليمات الرئيس!
يقيناً ثمة خطأ..
عبدالفتاح السيسي الذي تشكلت سياساته الخارجية الحكيمة وإصلاحاته الاقتصادية الجريئة بدواخلنا شعوراً بالتفاؤل.. عبدالفتاح السيسي الذي نجح في انتشال مصر من قائمة الدول الفاشلة، ليضعها في صدارة قائمة الاقتصاديات الناهضة..
عبد الفتاح السيسي لايمكن أن يطلق الملتزم العثماني ليمتص دم الغلابة والمطحونين.. وهم الذين اختاروه عن وعي وثقة بأنه سيكون خير قائد لمصر في تلك الظروف الصعبة..
فأين مكمن الخطأ؟
كان هذا أحد أسوأ الموبقات التي انتشرت وشاعت عبر العقود الأربعة السابقة لثورتي يناير ويونيو.. الفساد..
لصوص الحزب اللاوطني أجروا تعديلاً هائلاً في شعار المفكر الاقتصادي الاسكتلندي آدم سميث "دعه يعمل دعه يمر".. ليصبح " دعه يسرق.. دعه يفر"!، ومع هذا التعديل سرقوا مئات الآلاف من الأفدنة على طريق القاهرة-اسكندرية الصحراوي، القاهرة الاسماعيلية الصحراوي، الساحل الشمالي.. وغيرها.. بل أن تقريراً للهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية يقدر حجم أراضى الدولة المغتصبة والمستولى عليها ووضع اليد، بـ2.1 مليون فدان تقريبا.
وبهذا.. وغيره أصبحت مصر واحدة من أكثر البلاد فساداً طبقاً لقائمة الدول الفسدانة التي تصدرها منظمة الشفافية العالمية في برلين..
وكانت إحدى معارك الرئيس السيسي الكبرى.. القضاء على مافيا الفساد.. وفيما يتعلق باسترداد أراضي الدولة المنهوبة صدر قرار جمهوري بإنشاء لجنة استرداد أراضى الدولة ومستحقاتها في فبراير 2016 ونجحت الأجهزة الرقابية بالفعل من استرداد مئات الآلاف من الأفدنة أو تقنين أوضاعها..
ومع النتائج الجيدة للحرب ضد الفساد انتقلت مصر من المركز 118 إلى المركز 105 من بين 180 دولة في قائمة الدول الفسدانة ..
فأين هو الملتزم العثماني في تلك المنظومة التي تستهدف نهضة مصر وخير شعبها ؟
للأسف غالبية المسئولين، خاصة في المحليات يقرأون تعليمات الرئيس السيسي بعيون زائغة من الرعب، كلٌ يظن أنه إن لم ينفذ فسوف يطاح به.. فيهرعون لتنفيذ التعليمات بآلية عقول جمدها الخوف.. ليختلط الحابل بالنابل، ويتساوى من نهب آلاف الأفدنة.. بمواطن كادح ورث بيته المقام من عصر الملك نارمر مينا موحد القطرين على قيراط أو نصف قيراط بنجع منسي..
هذا حال مئات الآلاف من المواطنين الآن إن لم يكن الملايين .. لا قبل لهم بجبروت "الملتزم العثماني" ولا سطوة بيروقراطية موظفي أملاك الدولة، ولا رحلة الألف سنة المميتة في المحاكم..
بالطبع "الملتزم العثمانى" ولى زمنه ولن يعود.. ومصر الأكثر عراقة وحضارة على الكوكب لن تعود أبداً ولاية في أمبراطورية الجواري والخصيان التي يحلم بإحيائها أردوغان، ويعزف الأخوان على أوتار الحلم بجهل في كثير من الأحيان!
وأظن أن الغالبية العظمى من المواطنين ، حتى البسطاء منهم مستعدون لتقنين أوضاعهم بشراء الأرض التي يقيمون عليها بيوتهم.. لكن بالتقسيط المريح ، و بسعر معقول يحدد بُناء على الفترة التي تم وضع اليد فيها على الأرض".. فمن السخرية المُرة أن يقدر موظفو أملاك الدولة في مركز بلقاس ثمن المتر في قرى منسية ب 6 ألاف جنيه!! وحتى حين تم تخفيضه إلى 3500 جنيه فهو رقم فلكي.. لأرض توارثها الفلاح البسيط أباً عن جد وبنى عليها بيتاً يستر أسرته!
إن العديد من مناطق القاهرة والإسكندرية.. بل وحتى الساحل الشمالي لايصل سعر المتر فيها ثلاثة آلاف جنيه ..وثمة قرية سياحية لاتبعد عن مارينا بأكثر من 10 كيلومترات تباع فيها الفيلا المقامة على مساحة 200 متر، وملحق بها حديقة أكثر من 100 متر بـ 700 ألف جنيه، أي أن متر الأرض والمباني المقامة فوقه والحديقة ب2300 جنيه !!
فكيف ننقذ المواطن البسيط من "خوازيق" الملتزم العثماني"
تشكيل لجان من قبل موظفين لا يرفعون شعار" طلع عينه".! تدرس كل حالة على حدة ..
فإن انتهت اللجنة بأحقية المواطن في أرضه تتخذ إجراءات سريعة ودون إرهاقه ماديا لحذف اسمه من قائمة المعتدين على أراضي الدولة.
وإن انتهت اللجنة إلى غير ذلك فتُقَيِّم أسعار الأرض طبقاً لمدة وضع اليد، طبقاً لموقعها.. مع مراعاة الفارق الهائل بين الريف والمدينة..
لكن هذا الأمر في حاجة إلى متابعة مخلصة وحازمة من قبل رئيس لجنة استرداد أراضي الدولة، ووزير التنمية المحلية والمحافظين ورؤساء المدن.
وأقول لوزير التنمية المحلية.. لمحافظ الدقهلية.. لكل محافظي مصر.. إن لم تفعلوا هذا.. فسوف تتعرض ثقة المواطن الذي أشعل ثورة 30 يونيو في النظام الذي انبثق عن تلك الثورة.. لهزة عنيفة!!
Comments