للكاتب التونسي نصر سامي، غابة من السرود والحكايات والروايات والقصص التي تتنقّل بالقارئ بين الأزمنة والأمكنة ودروب الحياة وأغوار النفس البشرية ودهاليزها. تبدأ الرواية الصادرة عن "الآن ناشرون وموزعون" بعمّان، من نهاية الحكاية التي ينقطع فيها البطل عن معاصيه وآثامه وجرائمه، ويتفرغ للقراءة والعبادة، غير أن ماضيه الذي يطارده لا يمنحه الفرصة للتطهير والتطهر في العزلة التي اختارها.
ويقسم الكاتب الذي يعمل في السلطنة، روايته التي تقع في 256 صفحة، إلى خمسة أقسام، يحمل الأول عنوان "مقدمات أو نهايات، لا فرق أبداً"، وفيه يبدو البطل " جمال العطّار" رجلاً غامضاً، على هيئة ناسك أو متصوف، يهجر ملذّات الدنيا، ولكن قدَره يطارده بالنساء والثارات القديمة. ويشتمل القسم الثاني "نساء في حياة العطّار قبل الرحيل".
ويحكي الروائي في القسم الثالث "طين الروايات وأبطالها"، عن مناخات الكتابة التي تختلط بالنحت والرسم في تصوير الوجوه وجوانيات الأبطال وعلاقة الكاتب بهم. فيما يخصص القسم الرابع ليسرد رحلة في عوالم مجهولة ومتناقضة تصل حدّ الرعب، رحلة ليس مخطَّطاً لها، تقوده في لمصائد وورطات ينجو منها بما أوتي من لعنات.
وفي "خواتم الخطايا" يعيد الكاتب تدوير كل الحكاية لحوارٍ مع القارئ، ويضيء على نهاية العطّار الذي يعود إلى بلده ويجمع شتات رحلاته وأوراقه لتكون الرواية التي بين أيدينا. ويستهل نصر سامي روايته بالنمط الحكائي التراثي الذي يفترض وجود جمهور، ويقول: "يا سادة، يا مادة، سأحكي لكم في ما يلي حكاية جمال الدين العطار". والعطار اسم تراثي يضارع أسماء المتصوفة. وتحضر في الرواية المفردات التراثية التي تشبه سرد "ألف ليلة وليلة": "الصباح هنا مبلول، خائر، جاثم على القلوب، والأهل والولد بعيدون عنه، بينه وبينهم زمن". ويفيد الكاتب من الموروث الشفاهي المحكي لإبراز مقاربات تستنطق المسكوت عنه في الرواية الرسمية، مفجّراً طاقة المحكي الشعبي كجزء من الخطاب الراهن المشتبك مع الواقع.
وفي الأقسام التي تمثل مشاهد مقطَّعة، يحكي الروائي قصة "العطّار" الذي تمزج شخصيته الصعلكة بالصوفية، والنبل بالخسّة. إذ تقوده أقداره لمغادرة قريته، ثم يعمل سائقاً لنقل الممنوعات، ويجتاز مساحات ومفاوز وأدغالاً في إفريقيا، ويخوض صراعات، ويتعرض للخطر، ويمارس الاحتيال والقتل والتعبد والصلاة وأعمال الخير، وكلما أراد أن يخرج من الشِّباك التي وقع فيها، يُعيده ماضيه إلى المربع الأول.
تقع أحداث الرواية بين تونس وليبيا والمغرب والصحراء المغربية والسنغال وتشاد والكنغو، وخلال ذلك يتوقف الروائي عند جغرافية المكان وسماته الثقافية، وعادات الناس فيه، وصراعاتهم لتحصيل لقمة العيش التي يدفعون ثمنها بأجسادهم ودمهم. ومن هنا, في رواية المكان، الذي يسرده البطل عرضياً من خلال رحلاته، تقع الرواية في حقل أدب الرحلات. وفي السياق, وهو يحكي ذلك, يقدم نصر سامي رواية السيرة الذاتية والغيريّة في آن، كاشفاً عن أحوال إنسان تلك المنطقة الشاسعة من الصحراء والأدغال والتي لا تختلف صراعات البشر فيها عن الصراعات بين كائناتها المتوحشة.
وتتناول الرواية العقود الثلاثة المنصرمة التي تعرضت فيها القارة الإفريقية لزلزال العولمة، وبروز اقتصادات التهريب وظهور إقطاعياتها وعصاباتها التي تتاجر بكل شيء؛ حتى بالبشر.. وتحكمها علاقات الرشاوى والعنف والدجل. وفي تلك الحقبة الممتدة زماناً ومكاناً شاسعين، يلجأ الراوي إلى توليد الحكاية التي تشبه حكايات ألف ليلة وليلة في أسفارها وقطعها المفازات ودهشة وصفها للمجتمعات، وعرضها للحياة الشهوانية ولذاتها، وتنوعها بين البذخ والفقر والرفاه والمعاناة.
وتمثل الرواية شاهداً على التحولات التي كانت تجري في إفريقيا في تلك الحقبة، وما يجري فيها من جمر تحت الرماد، وتفتح أُفقاً لقراءة المستقبل الذي تتنازعه الرغبة والجشع والفاقة والقهر الذي يحول الكائن إلى مسخ. ولأهمية حضور المرأة، يرسم الكاتب بورتريهات أو مشاهد منفصلة لكلّ من نساء " العطّار"، تغدو فيه المرأة نصاً أدبياً، وكينونة من لحم ودم ومشاعر، وتظهر في الوقت نفسه ذئبية الإنسان.
ويفيد الكاتب من موهبته في الرسم والنحت، ليس في تصوير الشخصيات فحسب، بل في اظهارها وقتلها، ليناقش خلال ذلك نمو الشخصية في الرواية، وحكايتها، ويغدو الكاتب في الرواية متورطاً في الحكاية وجزءاً منها، لتصبح هناك رواية داخل الرواية.
وعلى بساطة اللغة التي تنحاز للتصوير والوصف والتكرار، فإن نصر سامي يشجرّ المتُون بعدد من النصوص الشعرية والمقولات من التاريخ. ومن الواضح أن سعة اطلاعه وثقافته التي تشير إليها سيرته الذاتية، قد ساهمت في إغناء الرواية لجهة الموضوع في ولوجه لمنطقة بكْر وراهنة بكل صراعاتها من خلال شخصية العطّار الشاهد والشهيد، ومن خلال الشكل الذي مثّل غابة من السرود.
ويبقى الكاتب حتى في نهاية ما أراد أن يقدم من سيرة، مراوغاً بأسئلته الاستنكارية التي تُوْقِع القارئ في شرك القراءة، وتحديداً في ما يقدم من شكل جديد في السرد الذي يصفه بالقول الدارج: "حكايتنا غابة، كل عام تجينا صابة". ويختم: "الآن, وقد أكملت الرواية، أتساءل أنا الكاتب نصر سامي، هل هذه الرواية رواية حقاً؟ وبطلُها جمال الدين العطار، هل هو بطلها حقاً؟ وهذا الكتاب لا يجب أن يُقرأ باعتباره رواية تقليدية، وليس بالقطع رواية تجريبية، بل هو نوع من السرد الروائي التأملي الذي يشترك الكاتب والقارئ في كتابته وإعادة ترتيبه".
يشار إلى أن نصر سامي صدرت له ثلاث روايات، وتسع مجموعات شعرية، ومسرحية واحدة، وكتابان في النقد، تُرجمت أعماله ونصوصه إلى غير لغة حية، نال عدداً من الجوائز، منها جائزة كتارا للرواية العربية عن مخطوطته "الطائر البشري"، وجائزة الشارقة للإبداع عن روايته "حكايات جابر الراعي".
Comments