
من السهل على كلّ واحد منّا إلقاء زهرة من نافذة لتسقط ،بفعل قانون الجاذبيّة، على قارعة درب ما ، فيشقّ عطرها طريقه، وفي ختام الرحلة ، تستقرّ في كفّ طفل ، أو فتاة حالمة بزهرة تسقط على قلبها من السماء!
وقد يكون من السهل أيضا حذف ملف ،أو رسالة ،أو صورة من هواتفنا ،أو أجهزة الحاسوب، لكنّنا نجد صعوبة في نسيان حادثة مؤلمة مرّت بنا ، وربّما يعود السبب إلى أن الحوادث التي تمرّ بنا تستقرّ في الذاكرة ، بينما المقتنيات ، وكل ما هو مادّي يشغل لا حيّزا خارج محيطنا الجسدي والروحي، ولهذا نحتفظ بالحاجيات التي ترتبط بذكريات سعيدة، لأنّها تجعلنا نستعيد تلك الذكريات بمجرد النظر إليها لذا نحرص على الاحتفاظ بها ، بينما يحدث العكس مع بعض الحاجيات التي ترتبط بذكريات مؤلمة،فقد يكون إبعادها عن أنظارنا وسيلة ناجحة لطيّ صفحتها من الذاكرة ، فإبقاؤها أمام الأنظار يثير المواجع ، وفي هذا السياق اعتاد سكّان الإسكندريّة المصريّة، سنويّا عند انطباق عقربي الساعة عند الرقم12 عشية يوم 31 ديسمبرمن كل عام، إذ يقومون ، إلقاء الأثاث القديم ، من نوافذ بيوتهم ،وكسر الأطباق الزجاجيّة ، والأواني الخزفيّة، والزجاجات الفارغة ، وأكياس المياه، والصحف، والمجلات،والكتب، وكلّ ما هو غير صالح للاستعمال، إحياء لعادة يونانية قديمة، صارت جزءا من طقوس الاحتفال برأس السنة ،وتعبّر عن الفرحة بالعام الجديد، ولكي لا تتحوّل تلك الأفراح إلى أتراح ، بما يمكن أن تسبّبه تلك الحاجيات من حوادث، ومضايقات للمارّة ،تقوم السلطات المختصّة ،ورجال الأمن ، بتحذيرهم ،ومنعهم من المرور في شوارع الإسكندريّة في تلك الساعة التي تشكّل فاصلة بين عامين ، الأوّل مضى ،وانقضى،والثاني آت بما يحلو ويطيب من أمنيات.
ويربط عدد من الدارسين هذا التقليد بعادة يونانيّة خاصة بحفلات الزفاف ،فبعد أن يتمنى العروسان أمنيات سعيدة لحياة جديدة يشربان من كأس ،ثمّ يقومان بكسر الكأس ،فيتحوّل فعل الكسر إلى أمل ببناء حياة جديدة،هانئة ،وسعيدة.
فكم من كلمة جارحة سمعناها ، وآذتنا ، ومرّت تاركة ندبا على أرواحنا، وقلوبنا !!
وكم من ذكرى مؤلمة، لموقف أحزننا ،وظلّ يطاردنا في اليقظة والمنام!
تفاصيل كثيرة تمرّ بنا خلال حياتنا ، ترمي بثقلها على نفوسنا ،فتئنّ من وطأتها أرواحنا ، لذا ليس أمامنا سوى القائها خلف ظهورنا من نوافذ الذاكرة ، فـ”كل ما هو آت آت” كما قال خطيب العرب قس بن ساعدة الإيادي في خطبته الشهيرة بسوق عكاظ التي ختمها بقوله:
في الذاهبين الأولين من القرون لنا بصائر
ورأيت قومي نحوها تمضي الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إليّ ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محالة حيث صار القوم صائر
ومادمنا في الأيّام الأولى من العام الجديد ، علينا التخلص من ذكريات العام الماضي السيئة التي تنغّص حياتنا ،وتؤزّم نفوسنا ، ولانحملها معنا إلى السنة الجديدة، والأهمّ من كلّ هذا أن يستمر هذا الشعور ،ويزحف على بقيّة أيّام السنة، قبل أن تتراكم الهموم ، ونفقد إحساسنا بدخولنا عاما جديدا ، ليصبح كلّ يوم هو فصل جمال جديد من عام نأمل أن يكون عام محبّة ،و اخاء،وتسامح، وسلام .