من منا لم يبتلى ومن منا يعيش فى هذه الحياه دون ابتلاء فالدنيا دار ابتلاء، ودار امتحان، ودار اختبار، فنحن مثلنا كأولئك الذين هم في قاعة امتحان كبيرة يمتحن فيها كل يوم، فما هذه الدنيا إلا دار اختبار، والآخرة دار القرار، ويبتلي الله عز وجل عباده بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء، وقد يبتليهم بها لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام والصالحين من عباده وقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل".
وعن ابو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ : يَا ابْنَ آدَمَ ! تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى ، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ ، وَإِلاَّ تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلاً ، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ ) رواه الترمذي.
فالغالب على الإنسان التقصير وعدم القيام بالواجب، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله، فإذا ابتلي أحد من عباد الله الصالحين بشيء من الأمراض أو نحوها فإن هذا يكون من جنس ابتلاء الأنبياء والرسل رفعًا في الدرجات وتعظيمًا للأجور، وليكون قدوة لغيره في الصبر والاحتساب ، فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار، وقد يكون لتكفير السيئات.
يقول الله تعالى فى حديثه القدسى (تشاء ياعبدي وأشاء ، فإذا رضيت بما أشاء أعطيتك ما تشاء) ويقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم " ما أصاب المسلم من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها".
ويقول أيضا صلى الله عليه وسلم من يرد الله به خيرا يصب منه، وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة خرجه الترمذي.
وإن من السنن الكونية وقوع البلاء على المخلوقين اختباراً لهم وتمحيصاً لذنوبهم وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم فقال الله تعالى ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ويقول تعالى ايضا ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ).
وقال تعالى ( الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط ". رواه الترمذي
ولنعلم بأن الابتلاءات بالخير والشر يجب أن نكون معها حذرين، ابتلاءات بالنعماء نحذر معها أشد الحذر، وابتلاءات بالضراء نحذر منها كذلك أشد الحذرقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) وقال سبحانه: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا).
فقدّر الله على الأمم وعلى الأفراد والجماعات أن تُبتلى؛ أحيانًا تُبتلى بالسراء، وأحيانًا تُبتلى بالضراء، أحيانًا تُبتلى بالأمن والأمان، وأحيانًا تُبتلى بسلب الأمن والأمان، وقد تُبتلى الأمم وتُبتلى الأفراد بالصحة والعافية والثراء والذرية، وقد تُبتلى الأمم والجماعات والأفراد بسلب الأمن عنهم وبالجوع، وبصنوف البلاء، ولقد تعددت صور الابتلاءات على أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فمنهم من يُبتلى بسبب حاسده، كما ابتُلي آدم عليه السلام بحسد إبليس، وبسببه أُخرج من الجنة.
وقد يُبتلى كذلك في ولده، فقد قتل ابن آدم الأول أخاه، ويا لها من مصيبة حلت بآدم عليه السلام لما يأتيه الخبر: أن ابنك الغوي قتل ابنك التقي. وتتنوع عليه صور البلاء عليه الصلاة والسلام، وكذا تتنوع على الأنبياء من بعده وعلى سائر الخلق فيُبتلى نوح عليه السلام على مدار ألف سنة إلا خمسين عام؛ بوصفه بأنه ساحر، وكذاب، وسفيه ومجنون!!
وتتنوع الابتلاءات على خليل الرحمن إبراهيم عليه صلوات الله وسلامه، فيُبتلى في جسده بأن يلقى في النار وهو صابر ثابت، ويبتلى في بدنه بأن يؤمر بالختان وهو ابن ثمانين سنة، فيقطع الجلدة من عضوه بالقدوم ( آلة النجار المعروفة ) صابرًا محتسبًا، ويبتلى في ولده فيؤمر بذبحه، ويُبتلى بلقاء الجبابرة الذي يقول أحدهم: أنا أحيي وأميت، وهو ثابت وصابر عليه الصلاة والسلام، ويُبتلى من محاولة اغتصاب لزوجته من جبار تدخل عليه امرأة إبراهيم ويمد يده لاغتصابها فيسلّمها الله وينجّيها الله، ويُبتلى بتكاليف شرعية ابتلاءً تلو ابتلاء تلو ابتلاء.. ويصبر على كل ذلك.
ويأتي الكليم موسى عليه الصلاة والسلام في زمن يُذبح فيه الأبناء وتُستحيى فيه النساء فيسلّمه الله، ولكن ما يلبث إلا أن يُبتلى بالفرار من بلاده، ويُبتلى بالعودة وحمل الرسالة إلى الجبابرة، فيثبت لذلك مستعينًا بالله صابرًا على قضائه وبلائه ، وتتنوع عليه صور البلاء مع أقاربه كقارون الطاغي الباغي الذي ما اتقى الله في ماله ولا في قبيلته ولا في عشيرته، بل بغى عليهم، وقد أُوتي (مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ).
أما النبى الكريم محمد عليه الصلاة والسلام سيد ولد آدم فتتنوع عليه صنوف البلاء، ويضيق المقام بذكر ذلك، يُطرد من بلده، يُلقى على ظهره مخلفات الإبل وهو يصلي، يحاولون قتله في المدينة، يُطعن في عرضه في زوجته، وتُتهم الصديقة بنت الصديق بأنها ارتكبت الفاحشة، وحاشها رضي الله عنها وعن أبيها وصلوات الله وسلامه على زوجها الأمين محمد سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام ، ولا تزال الابتلاءات بالمؤمن وبالمؤمنة حتى يخرج وتخرج من الأرض ومن الدنيا وما عليه خطيئة.
وتمر الابتلاءات بالأمم والشعوب، ولعلكم ترون ما يحدث وما يدور في هذه الأجواء المليئة بالابتلاءات، وكل يوم تسمعون وترون ابتلاءً من نوع جديد، وصدق الرسول الأمين إذ قال مبينًا ما يكون بين يدي الساعة ومجيء الفتن ، فيقول الشخص: "هذه مُهلكتي، فتنكشف وتأتي فتنة أعظم، فيقول هذه.. هذه.. فتن يرقّق بعضها بعضًا".
ولكن كما لا يخفى عليكم أن الله سبحانه لم يكن أبدًا ليهين أولياءه، بل هو يتولى الصالحين، يتولى الصالحين يكرمهم يدبّر أمرهم، يحبهم.. الصالحون وأهل الطاعة وإن كانوا في ابتلاء فهم مأجورون لا تنقطع أجورهم أبدًا، بل يبلغون بالابتلاءات أعالي الدرجات وأعلى المقامات، وبالابتلاءات يبلغون أعلى الدرجات إذا كانوا في طاعة لله، فادخلوا بأنفسكم مستعينين بالله في أعداد الصالحين، يتولاكم الله ويدبر الله لكم أموركم.
ولنعلم جميعا أن الابتلاء قد يكون محطة لتكفير الذنوب والمعاصي، حتى الصداع في الرأس، حتى الوجع في الضرس، أيّ غمّ وأيّ همّ يصيبك، حتى الشوكة تشاكها، كل ذلك تخفيف وتكفير للذنوب والمعاصي، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم "ما يصيب المسلم من نصَب ولا وصَب ولا همٍ ولا حزنٍ ولا أذي ولا غمٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها تعالى من خطاياه".
وقد يبتلى الله تعالى عبده بالرزق الوفير، فلا ينبغي أن يظن هذا العبد أنه بذلك يكون محبوبا عند الله سبحانه جل في علاه، إذا لم يكن طبعا ملتزما بتعاليم دين الله سبحانه فمحبة الله ليست بالمال وليست بالجاه وليست بالمناصب؛ إنما محبة الله تعالى تكون بالعمل الصالح وبالتقوى، فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله يعطي الدنيا مَن يحب ومَن لا يحب"، أى أن الله عز وجل يعطي هذه الدنيا الفانية لمن يحب ولمن لا يحب، إنما يعطي الدين والإيمان لمن أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه.
وقد يكون الابتلاء أيضا استدراجاً يستدرج الله هذا العبد، يستدرجه ثم يستدرجه حتى إذا أخذه أخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، فقال عز وجل في محكم التنزيل: (سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ. وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيت الله يعطى العبد ما يحب وهو قائم على معصيته فأعلم أنما هو استدراج"، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ) فإذا هم يائسون من كل خير، ومن رحمة، ومن كل نعمة.
ويقول الله تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم خلقتك للعبادة فلا تلعب، وقسمت لك رزقك فلا تتعب، فإن أنت رضيت بما قسمته لك أرحت قلبك وبدنك وكنت عندي محمودًا، وإن لم ترضَ بما قسمته لك فوعزتي وجلالي لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحوش في البرية ثم لا يكون لك منها إلا ما قسمته لك وكنت عندي مذمومًا".
Comments