
الاستمتاع باللحظة، التأمل في الحياة، الطبيعة.. كلمات غابت وماتت.. وما تبقى هو صورة وتعليق..
قالت لي صديقتي: "أرغب في السفر، أئمل في التغيير".. فقلت لها: "وما هي خططتك للاستمتاع بلحظاتك في ذلك المكان؟".. أجابتني بابتسامتها المجنونة: "سألتقط صورا لي في جميع الزوايا والأركان.. سأخلد بصوري ذكرى تواجدي في ذلك المكان"..
ولا تدري أننا راحلون والصور باقية.. لماذا لم تفكر فيما ستراه هنالك من جمال الطبيعة؟! لماذا لم تتخيل طريق السفر بمشقاته ومتعته؟! فكل ما أرادته هو صورة وتعليق!!
التصوير هو فن وإبداع وموهبة حقيقية، ووسيلة لتوثيق الأحداث، تجميد لحظة من الزمن، لحظة تتوقف فيها الحياة.. ولكنه في نفس الوقت وسيلة تحرم أعيننا من الاستمتاع بالجمال، عندما يتحول الأمر إلى الإدمان و"الهوس"..
كنّا سابقا نلتقط الصور من أجل توثيق مشاهد بعينها، بصور قليلة، نعود للتأمل فيها بعد سنوات، لنتذكر ابتسامة، حركة، لعبة، أناس فارقونا.. أما الآن ما يشغل تفكيرنا هو التقاط مئات الصور -قد يكون معظمها لا فائدة له- للحصول على إعجاب أو تعليق.. أصبح همنا الشاغل هو التقاط أكبر كم ممكن من الصور للحصول على أكبر كم من التعليقات والمشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي.. وكأننا في سباق..
كيف لنا أن نكون في عالم واقعي به كل هذا الجمال بتفاصيله، ونتركه وننساه لنعيش في عالم افتراضي ووهمي؟!
لماذا لا نعطي الفرصة لعقلنا هو من يوثق هذه اللحظات ليتذكرها ويعيدها بعد سنوات، وتكون الصور مجرد وسيلة للتذكر؟! ولكننا قمنا بتعطيل جميع حواسنا ومدركاتنا عن التأمل، واختصارنا لحظاتنا في صورة وتعليق..
ويسعى الأفراد لالتقاط الصور للعديد من الأسباب كتوثيق وتسجيل اللحظات السعيدة والمواقف المضحكة والغريبة، وصور تضم أقرب الأصدقاء لنتذكرها بعد سنوات، صور مناسباتنا ولحظاتنا المختلفة، قد تكون الصور وسيلة للتعبير عما لا تستطيع الكلمات قوله كالشعور بالفرح أو الحزن أو الغضب. وقد يلجأ البعض منا إلى التصوير كوسيلة للتخلص من الاضطراب النفسي والخروج من الوحدة.
الإكثار من الشيء ينتج من الاضطراب النفسي الذي يعيشه البعض منا، نتيجة للظروف المجتمعية المحيطة.. الرغبة في الظهور، حب الشهرة، الرغبة في الشعور بتقدير الذات، إيجاد الاهتمام من الآخرين.. جميع ما سبق قد يكون سببا في مرض "هوس التصوير".. وقد أعلنت الرابطة الأمريكية للطب النفسي «APA» أن اثنين من كل ثلاثة مرضى ممن يعانون من اضطراب التشوه الجسمي يميلون إلى التقاط صور ذاتية متتالية وبكميات كبيرة، مؤكدة أن السلفي هو دليل على الاضطراب العقلي لدى الشخص الذي يصور نفسه، لأنهم يلتقطون الصور للتعويض عن عدم وجود الثقة بالنفس، والغريب ما أشارت له الدراسة من أن نسبة مدمنيها تصل إلى 17% في صفوف الرجال، بينما لا تتعدى 10% في صفوف النساء.
الحياة أبسط مما نتخيل بكثير، استمتعوا وتأملوا واقتنصوا اللحظات السعيدة بحواسكم، فالحياة قصيرة..
Commentaires