رحل الدبلوماسي والصحفي العماني صادق عبدواني.. يعرفه العديد من المصريين.. لكني أزيد عليهم بما هو أكثر من المعرفة.. هذا التقارب إلى حد التفاعل الانساني العميق عبر 18سنة قضيتها مدير تحرير مجلته "الأسرة"..
كان صاحب الامتياز ورئيس التحرير.. ومن خلال عملي هذا أمضيت أجمل سنوات عمري بين أحد أجمل الشعوب.. الشعب العماني الرائع.. وعقب عودتي إلى القاهرة عام 1999 قلت هذا في حوار للإذاعة المصرية.. ورددته مرارًا –ومازلت- في حواراتي ومقالاتي: أن في قلب كل عماني مسجدًا يصلي فيه كل البشر. وما كان صادق عبدواني استثناء.. ولا نجله حسن ولا كريمته كفاح.. وأمهما "أم حسن".. كان صادق عبدواني ديموقراطيًا في إدارة شئون المجلة.. وكثيرًا ما أنصت إلي اقتراحاتي.. أن نتواصل مع الناس.. مع المواطن العادي مثلما نتواصل مع المسئولين.. أن نحد بقدر الإمكان من صحافة "القص واللصق".. أن يتسع نطاق اهتماماتنا لتشمل كل الجغرافية العمانية.. كل سكان الجغرافية العمانية.. في مسقط و ظفار.. في مسندم ومصيرة.. في الظاهرة والباطنة والشرقية والداخلية.. في كل القرى والمدن.. في أي واد سحيق يتردد فيه زفير إنسان. وكل أسبوعين أحمل الكاميرا وأوراقي وأقلامي وأشد الرحال إلى إحدى الولايات.. أحيانًا بسيارة أجرة إن لم تتوافر سيارة في المجلة.. ودومًا يتبخر عرق الإرهاق بحميمية التواصل الى ان اصبحت في قلوبهم ضمن فئة الأصدقاء. قد تتلاشى الأسماء من على جدران الذاكرة.. لكن ماسمعته مازال رغم مرور عقود زاهيًا كأنه وليد شفاههم في لحظتي تلك، يحدثني أحدهم عن معارك مهمة دارت حول إحدى قلاع الباطنة.. وكانت حاسمة في التاريخ العماني.. قلت له: هذه الأحداث المهمة لايعرفها غالبية العرب.. وربما العمانيون.. فقال بعفوية: أخي محمد..عمان لا ينقصها التاريخ.. بل التأريخ!! هل قلت إن الراحل صادق عبدواني.. كان ديموقراطيًا..؟ وأظن أن ديمقراطيته تلك أحيانا كانت تكبده خسائر مادية لا يستهان بها.. بسبب اقتراحاتي ومنها تحويل المجلة من أبيض واسود إلى ملون، ثم من إصدار نصف شهري إلى أسبوعي. وثمة أخطاء أخرى وقعت بسبب اقتراحاتي التي تجاوزتُ في دفاعي عنها حد الحماس إلى صحاري التهور.. وموضوعات صحفية ما كان ينبغي إثارتها.. لكنه.. رغم تداعيات تلك الأخطاء السلبية كان متسامحًا.. وكانت بصيرته تتجاوز ماهو كائن تحت أرجلنا إلى أفاق أبعد.. كان يطبق بعفوية تلك المقولة الشائعة بين علماء الإدارة: إذا واجهتك مشكلة لاتكتفي بالبحث عن حل لها.. بل أيضًا كيف تستفيد منها.. لهذا انطلقت مجلة الأسرة خلال الثمانينيات والتسعينينات لتصبح الأكثر تفاعلًا بين المجلات المحلية مع هموم وأحلام المواطن العماني.. لتصبح الأكثر استئثارًا على اهتمامات وكالات الإعلان في الداخل والخارج.. لتحظى بالدعم الأكبر من وزارة الإعلام بين المجلات. ولا أنسى الجهد الذي بذلناه عام 1982 إن لم تخني الذاكرة ليرى اقتراحي النور.. أن يكون لدينا ما يمكن تسميته بصحافة الجريمة.. حتى اقتنعت السلطات بأهمية ذلك.. وبدأت تمدنا كل عدد من المجلة بتفاصيل إحدى الجرائم التي يرتكبها الخارجون عن القانون.. وكنت أعيد صياغة تلك التفاصيل بلغة قصصية بسيطة.. وجدت اهتماما.. بل استقطابًا من القراء.. لكن.. لا أدري الآن.. هل كنت متهورا حين طرحت عليه اقتراحي بتحويل المجلة إلى مؤسسة صحفية كبرى تملك مطبعتها.. تصدر جريدة يومية..؟ وهل كان حكيما حين أصر على عدم الاستجابة لاقتراحي؟ أحيانًا أشعر بأنه لو أخذ برؤيتي لكانت الأحوال الآن أفضل بكثير.. وأحيانًا وأنا أتابع معاناة الصحافة الورقية الآن خاصة في العالم العربي -وقد ألقيت محاضرة في كلية البيان للصحافة في مسقط عن هذا الأمر منذ عدة سنوات- أراه كان محقًا في رفضه. وكثيرًا ما اتهم صادق عبدواني بأنه شحيح.. وما رأيته.. في جوهره.. هكذا.. كان يدير أموره وأمور المجلة تمامًا مثلما يفعل المتحضرون للغاية عبر ضفتي الأطلنطي.. والأهم كما يحثنا ديننا الحنيف. هل تتوق نفسك إلى أكل التفاح؟.. لك ماتريد.. اشتر إذن حبة أو حبتين حسب حاجتك.. هذا ما يفعلونه هناك.. أما هنا.. فنشتري أحيانا بالصناديق ليفسد نصفها.. أكثر من ربع غذاء العرب يلقى في صناديق القمامة.. والمضحك أنهم يصفون هذا بالكرم.. وهو في الحقيقة سفه وحماقة!.. وهذا هو الحال في إدارة الكثير من أمور حياتنا.. في إدارته للمجلة لم يكن صادق عبدواني شحيحًا.. ماتحتاجه المجلة والعاملون بها يدرس بدقة.. ماهو ضروري يُقتنى وما ليس ضروريًا.. لماذا تهدر في شرائه البيسات؟!! ولن أنسى جلسة حساباتنا الأخيرة.. حين قررت العودة نهائيًا للقاهرة لظروف تتعلق بدراسة ابني أحمد في الجامعة..تناول صادق عبدواني -كعادته التي بسببها اتهم بما ليس فيه- حاسبته.. وأمضى وقتًا غير قليل ليحسب كم استحق من مكافأة نهاية الخدمة.. وحين انتهى.. تناول دفتر الشيكات وخطَّ رقمًا.. حين تناولت الشيك تسمرت عيني على الرقم للحظات.. أعدته إليه: الظاهر يا أبوحسن فيه خطأ.. المكافأة أقل من كده.. سحب سيجارة من العلبة التي أمامه.. وتطلع إليَّ وهو يشعلها.. ثم قال: صدقني يا أبو أحمد لو ظروف المجلة تسمح لكان الرقم أكبر من هذا بكثير. هل استهللت سطوري هذه بعبارة رحل صادق عبدواني؟!! وأنا أعيد قراءة سطوري هذه.. شعرت وكأنني أجلس وإياه في مكتبه أو مكتبي ببيت قبس في مدخل شارع مطرح.. أقرأ له كالعادة افتتاحية مجلة الأسرة التي كتبتها لتنشر العدد المقبل.. حول رجل طيب.. كريم "بلغة المتحضرين".. رحل عن دنيانا.. لكن في تلك المرة.. حين انتهيت من قراءة ماكتبت.. فوجئت بأن المشهد مبتورة نهايته.. لم يبدِ أية ملاحظة على غير عادته حول ماكتبت.. لتداهمني الحقيقة أن الطيب الكريم الذي رحل هو ذاته.. صادق عبدواني
Comments