top of page

الأبناء بعد الطلاق: وجع صامت وحاجة إلى رعاية مشتركة

  • saad25105
  • قبل ساعتين
  • 3 دقيقة قراءة
ree

المحامية: نوال بنت حمدان الهاشمية


الطلاق ليس مجرد انفصال بين رجل وامرأة، بل هو زلزال يضرب البنية النفسية والاجتماعية للأسرة بأكملها. وإذا كان الزوجان يملكان القرار، فإن الأبناء هم الذين يتحملون الارتدادات دون اختيار أو استعداد. من هنا تصبح ثقافة الرعاية المشتركة واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا، تُعيد التوازن لحياة الأبناء وتخفف من وطأة الانفصال.


إنّ القرآن الكريم حينما أباح الطلاق لم يجعله بابًا مفتوحًا على الفوضى أو الانتقام، بل أحاطه بسياج من القيم والرحمة، فقال سبحانه:


﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [البقرة: 229].


فهذه القاعدة الإلهية تُذكِّرنا أن الأبناء جزء من “المعروف” الذي يجب أن يبقى بعد الانفصال، وأمانة مشتركة لا يجوز أن تُستَعمل في تصفية الحسابات.


أولاً: وجع الأبناء في صمت

الأطفال لا يملكون القدرة على التعبير عن جراحهم ببلاغة الكبار، لكنهم يعيشون الانكسار بعمق. وقد يتجلى ذلك في:

* الخوف من المستقبل: حين يشعر الطفل بأن البيت الذي كان مصدر الأمان قد تفكك

 * الإحساس بالذنب: إذ يظن بعضهم أن خلاف والديه بسببهم أو بسبب سلوكهم

 * ازدواجية الانتماء: حيث يُطلب منه أن يختار بين حب هذا أو ذاك، وهو لا يريد أن يخسر أحدهما

 * تمرد داخلي قد يظهر في سلوكه المدرسي أو الاجتماعي، كرد فعل على ما يراه من صراع دائم

إنها آلام صامتة، لكنها تترك أثرًا عميقًا في تكوين شخصيته، وقد تحدد مستقبله النفسي والاجتماعي لعقود قادمة.


ثانياً: الرعاية المشتركة.. جسر عبور لا بد منه

الرعاية المشتركة ليست شعارًا مثاليًا، بل هي ضرورة عملية لحماية الأبناء من الانهيار. وهي تقوم على أربعة أعمدة أساسية:

 1- التعاون المسؤول: أن يدرك الأبوان أن دورهما لم ينتهِ بالطلاق، بل بدأ من جديد في شكل آخر، حيث يشتركان في تربية الأبناء وتقويم سلوكهم.

 2- توازن العلاقات: فلا يجوز لأحدهما أن يضع الطفل في موقف عدائي تجاه الآخر، بل يجب أن يبقى الوالدان في نظره قدوة، حتى وإن لم يجمعهما بيت واحد.

 3- التربية الموحدة: بالاتفاق على قواعد تربوية متقاربة، تمنع تضارب التوجيهات، فلا يعيش الطفل في ازدواجية القيم.

 4- حماية الصورة النفسية: بعدم تبادل الاتهامات أمام الأبناء، أو استخدامهم كرسل لنقل الأخبار بين الأبوين.


هذه المبادئ ليست مستحيلة التحقيق؛ إنها اختبار لمدى نضج الوالدين ورغبتهما في إنقاذ الأبناء من الغرق في بحر الخلافات.


ثالثاً: بين القانون والأخلاق

لقد أولت القوانين أهمية قصوى لمصلحة الأبناء، فجعلت النفقة والحضانة والزيارة حقوقًا مصونة. لكن القانون مهما بلغت دقته لا يستطيع أن يزرع الرحمة في القلوب، ولا أن يلزم أحد الزوجين بخلق كريم. إنما يضع الحد الأدنى من العدالة.


أما الفضل فهو ما يبقى للأخلاق: أن يُعطي الوالد فوق ما يفرضه القانون، وأن تُحسن الأم في التعامل بما يتجاوز النصوص. وفي هذا يتجلّى الفرق بين من يتعامل بعقلية “الحقوق والواجبات” فقط، ومن يتعامل بعقلية “الفضل والإحسان.”


رابعاً: المجتمع مرآة سلوك الوالدين

الطلاق الأخلاقي الذي يُراعي الأبناء لا ينعكس عليهم وحدهم، بل يترك بصمة على المجتمع كله:

 * أبناء أصحاء نفسيًا: ينشؤون بلا عقد ولا كراهية، قادرين على بناء أسر مستقرة لاحقًا

 * علاقات عائلية أكثر استقرارًا: إذ يبقى الخلاف محصورًا في الزوجين، دون أن يمتد إلى العائلتين

 * مجتمع متسامح: حيث يصبح الطلاق نهاية طبيعية لا كارثة اجتماعية، فيتعلّم الجيل الجديد أن الخلافات يمكن أن تُدار برقي.

وللإعلام دور جوهري هنا؛ فهو قادر إمّا على تضخيم قصص الصراع وتشويه صورة الطلاق، أو على تقديم نماذج راقية تُرشد الناس إلى أن الاحترام ممكن حتى بعد الانفصال.

خامساً: رسالة إلى كل والد ووالدة

الأبناء لا يطلبون المستحيل، بل يريدون أن يروا حبًا يحميهم حتى بعد الطلاق. هم لا يحتاجون بيتًا واحدًا بقدر ما يحتاجون قلبين متعاونين. كل كلمة طيبة بين الأبوين بعد الانفصال هي سياج نفسي يحمي الطفل، وكل خصومة علنية هي سهم يجرحه في الصميم.


الخاتمة:


الأبناء ليسوا تركةً تُقسَّم بعد الطلاق، ولا أوراقًا في معركة، بل هم أمانة أودعها الله في أعناق الوالدين. والرعاية المشتركة هي الامتحان الحقيقي الذي يُظهر أيهما أرقى خُلقًا وأصدق وفاءً.


فالطلاق قد ينهي عقدًا، لكنه لا ينهي واجب الأبوة والأمومة. ومن يُحسن إلى أبنائه بعد الطلاق يترك لهم إرثًا من الطمأنينة أعظم من أي ميراث مادي. إنها وصية للأبناء قبل أن تكون وصية للزوجين: لا تجعلوا الطلاق يسرق طفولة الأبناء، بل اجعلوه جسرًا يعبر بهم إلى حياة مستقرة وآمنة..


 
 
 

3 تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
rashid alhashmi
rashid alhashmi
منذ 23 دقائق
تم التقييم بـ 5 من أصل 5 نجوم.

طرح جميل

إعجاب

Bbashayar Rashid
Bbashayar Rashid
منذ ساعة واحدة
تم التقييم بـ 5 من أصل 5 نجوم.

إطراء متميز وبناء ولفتة مُثرية في مجالكم الأنساني محامية : نوال الهاشمية، وصلت عمق الرسالة وهدفها لقلوبنا قبل مخيلتنا بارك الله في جهودكم .

إعجاب

larimarhr
منذ ساعة واحدة
تم التقييم بـ 5 من أصل 5 نجوم.

طرح مميز وبناء ، ليس غريب ان يصدر عنك استاذه ، فنحن دائما وابدا كما عهدناك راية مميزة في مجال المحاماه .. مبارك لك الاختيار والطرح في عمق الرسالة وبساطة ايصالها لنا كمجتمع.

إعجاب
bottom of page