الحاجة… حين أنجبت الاختراع، والاختراع… حين صار أمًّا للحاجة
- nourelkomy1245
- 29 سبتمبر
- 4 دقيقة قراءة

بقلم:معمر حسين اليافعي (ابن الحصن)
بين الحاجة والاختراع… تاريخ طويل يعكس مسيرة الإنسان من الكهف إلى المدينة، ومن النهر إلى الصحراء.
كان الإنسان الأول يسير على خطى الطبيعة كما يسير الطفل خلف أمه. يبحث عن الماء حيث تجري الأنهار، وعن المأوى حيث تنبسط الكهوف، وعن الطعام حيث يثمر الشجر. كانت الحياة آنذاك رحلة بحث أبدية عن البقاء، وكانت الحاجة هي الدافع الأول لكل ابتكار. النار لم تكن سوى صرخة خوف من بردٍ ووحش، والمحراث لم يكن إلا رغبة في أن يزرع ما يسد رمق الجوع، والمأوى لم يكن إلا استجابة لزخات المطر ورياح الصحراء. ولذا قيل: الحاجة أم الاختراع.
لكن الزمن، بطبيعته المتمردة، لا يقبل أن يبقى في دائرة واحدة. انقلبت المعادلة، وأصبح الإنسان يخترع أولًا، ثم يولّد الحاجة لاحقًا. صار الاختراع هو الأم الجديدة، وصارت الحاجة هي الابنة التي تأتي بعد الولادة. لم يعد العقل البشري مجرد متلقٍ لأوامر الطبيعة، بل صار يسبقها بخياله، ويصنع واقعًا لم يكن موجودًا، ثم يُقنع جسده وروحه أنه بحاجة إليه.
الصحراء مثال صارخ لهذا التحول. كانت في الماضي منفى الطبيعة، أرضًا يفرّ منها الإنسان، موحشة، قاسية، عطشى. لم تكن سوى طريق للرحيل، لا مكان للإقامة. واليوم، صارت الصحراء مدينة متلألئة، تحولت رمالها إلى زجاج وفولاذ، وتحول وهجها إلى ضوء كهربائي لا ينطفئ. لم يعد الإنسان يهرب منها بحثًا عن الماء، بل صار يستحضر الماء من البحر، ويزرعه في قلب الرمال، ويجعل المزارع تنبت بضغط زرّ في بيوت زجاجية، ويسوق الأنهار في أنابيب عملاقة تمتد تحت الأرض. لم تعد الحاجة هي التي أملت على الإنسان أن يستوطن الصحراء، بل كان الاختراع هو الذي أقنعه أنه يستطيع، بل وجعل منه ضرورة جديدة للحياة.
وهذا ليس شأن الصحراء وحدها. انظر إلى سنغافورة مثلًا، تلك الجزيرة الصغيرة التي لم يكن لها من موارد الحياة نصيب. بلا نفط، بلا أرض خصبة، بلا أنهار، ومع ذلك تحولت خلال نصف قرن إلى مركز مالي وتجاري عالمي. لم تكن الحاجة هي التي صنعت ذلك، بل كان الابتكار أولًا، ليخلق حاجات جديدة: الحاجة إلى أن تكون ملتقى العالم، الحاجة إلى أن تُستثمر العقول، الحاجة إلى أن تتحول إلى مرآة للتطور. لقد سبقت الفكرة الحاجة، ثم فرضت نفسها كحقيقة لا يمكن إنكارها.
وفي صحراء أريزونا ونيو مكسيكو، حيث لا ماء ولا خضرة، نشأت مزارع ضخمة للطاقة الشمسية، وتجارب زراعية تصدّر الغذاء إلى العالم. هنا أيضًا، لم تكن الحاجة القديمة إلى القمح أو الماء هي التي حرّكت الإنسان، بل كان وعيه باختراع جديد هو الذي جعل هذه الأرض القاحلة مختبرًا لمستقبل مختلف.
لكن السؤال يظل قائمًا: من يقود من؟ هل نحن من يحتاج إلى الاختراعات، أم أن الاختراعات هي من تخلق حاجاتنا وتدفعنا إلى اللهاث وراءها؟ الهاتف الذكي، على سبيل المثال، لم يكن حاجة يومًا، لكن ما إن وُجد حتى صار ضرورة يومية لا غنى عنها. السيارة الكهربائية لم تكن حاجة، لكنها ولّدت وعينا الجديد بالطاقة النظيفة، فأصبحت جزءًا من خطاب المستقبل.
في الماضي كانت الحياة بسيطة، والحاجات محدودة: ماء للشرب، خبز للأكل، مأوى يحمي من المطر. أما اليوم فقد تضاعفت الحاجات حتى صار من الصعب التمييز بين ما هو أساسي وما هو ترف. أصبحنا نحتاج إلى الإنترنت كما نحتاج إلى الهواء، نحتاج إلى التكييف كما نحتاج إلى الظل، نحتاج إلى السيارة كما نحتاج إلى الأقدام. أصبح المكان يتبع الإنسان لا العكس، وأصبح الإنسان لا يكتفي بالبحث عن الأنهار، بل يجرّها حيث يشاء.
هذا التحول يكشف سرًّا جوهريًا في طبيعة الإنسان: أنه لا يرضى أن يكون تابعًا لقوانين المكان. الطبيعة تقول: لا حياة في الصحراء، فيرد: سأجعلها مدينة. تقول: الماء محدود، فيرد: سأصنعه من البحر والهواء. تقول: الظلام يفرض النوم، فيرد: سأصنع كهرباء تطيل النهار. بهذا المعنى، لم يعد الإنسان أسير الحاجة، بل صار صانعها.
ومع ذلك، يظل السؤال الفلسفي يلوح: إذا كانت الحاجة قد أنجبت الاختراع في الماضي، والاختراع صار أمًّا للحاجة في الحاضر، فمن سيكون الأب في المستقبل؟ هل هو الوعي الذي يوجه الاختراعات نحو غايات سامية؟ أم الخيال الذي يسبق كل شيء ويجعل المستحيل واقعًا؟ أم هي الرغبة البشرية التي لا تعرف الاكتفاء، والتي تظل تولّد حاجات جديدة بلا نهاية؟
ربما سيأتي زمن نصبح فيه عاجزين عن التمييز بين من يحتاج إلى من: الإنسان إلى الآلة، أم الآلة إلى الإنسان. الذكاء الاصطناعي اليوم ليس مجرد أداة، بل صار يزرع فينا حاجات لم نكن ندركها. قد نكتشف بعد سنوات أننا نعيش وفق ما قررته اختراعاتنا، لا وفق ما قررته حاجاتنا.
ومع ذلك، يبقى الجمال قائمًا. فالإنسان حين حوّل الصحراء إلى مدينة، والبحر إلى ماء عذب، والرمل إلى برج شاهق، أثبت أن وعيه قادر على إعادة كتابة قوانين الوجود. لكنه في الوقت نفسه وضع نفسه أمام امتحان عظيم: إن لم يُحسن توجيه اختراعاته، فإنها قد تُحسن توجيهه هي.
فمنذ البدايات قيل: الحاجة أم الاختراع. واليوم نرى أن الاختراع صار أمًّا للحاجة. أما غدًا، فقد نكتشف أن الأب الحقيقي لكل شيء هو الخيال، ذاك الوميض الذي لا يعرف نهاية، والذي لا يكفّ عن إعادة اختراع الحياة ذاتها.
وفي لحظة التأمل الأخيرة، يمكن أن نقول إن الإنسان لا يخلق الحاجات ولا تخلقه الحاجات، بل إن الاثنين معًا يلتقيان في مسرح واحد اسمه الوعي. وكل ما نراه من عمران وحداثة ليس سوى حوار طويل بين خوفٍ قديم ورغبة جديدة، بين عطش البدايات ووفرة النهايات، بين أمٍّ اسمها الحاجة وأمٍّ ثانية اسمها الاختراع… وبين أبٍ خفيٍّ لا يراه إلا الفلاسفة: الخيال.
ابن الحصن
كاتب وباحث عُماني مهتم بالفكر، الهوية، والفلسفة المعاصرة.
رئيس تحرير سابق لمجلة بيادر.
صاحب تجربة طويلة في الإعلام، التجارة، والثقافة.
مؤسس مشروع ثروان؛ رؤية ثقافية وتجارية تهدف إلى إحياء التراث الخليجي بروح عصرية، ووصل الماضي بالحاضر، واستثمار الهوية كقوة ناعمة في صناعة المستقبل.
بقلم :معمر حسين عبداللاه اليافعي
(ثروان)


تعليقات