الطلاق لیس نھایة الأخلاق: ثقافة البقاء على المعروف بعد الانفصال
- nourelkomy1245
- قبل 15 ساعة
- 3 دقيقة قراءة

المحامية نوال بنت حمدان الهاشمية
الطلاق لیس نھایة للحیاة ،بل ھو مرحلة انتقالیة تحمل في طیاتھا الكثیر من الدروس والعِبر. إنه انفصال بین زوجین بعد أن استحالت العِشرة بینھما، لكنه لیس مبررًاللتشھیر أو الانتقام أو كشف العیوب .فالعلاقة الزوجیة التي قامت یومًا على المودة والرحمة، لا یجوز أن تخُتتَمَ إلا بالمعروف ،مصداقاً لقوله تعالى:
﴿وَلاَ تنَسَوُا الْفضَْلَ بیَْنكَُمْ إَِّن َّبِمَا تعَْمَلوُنَ بصَِیرٌ﴾ [البقرة: 237].
ھذه الآیة الكریمة تختزل فلسفة الطلاق الأخلاقي، وتوجّه الإنسان إلى أن الانفصال لا یعني إلغاء قیمة العشرة السابقة أو التنكّر لفضل الطرف الآخر ،بل ھو دعوة إلى الحفاظ على ما تبقى من كرامة وعِشرة طیبة، خصوصًا إذا كان ھناك أبناء ھم الضحیة الأولى لأي خلاف أو قطیعة. إن الطلاق الحضاري ھو طوق نجاة من بحر النزاعات، ووسیلة للانتقال من مرحلة الخلاف إلى مرحلة الاحترام المتبادل.
أولاً: ثقافة الإحسان بعد الطلاق
جاء في الحدیث الشریف عن النبي ﷺ: »من ستر مسلمًا ستره ﷲ في الدنیا والآخرة«. وھذا المبدأ یظل صالحًا حتى بعد الانفصال ،فلا یلیق بأحد الزوجین أن یكشف عیوب الآخر أو یفضح أسراره في المجالس أو على مواقع التواصل الاجتماعي. فالإحسان بعد الطلاق لیس ضعفاً أو تنازلاً، بل ھو قمة الأخلاق وامتحان حقیقي لصدق الإیمان.
ومن الأمثلة الواقعیة أن بعض الأزواج ــ رغم انتھاء العلاقة ــ یتفقون على أن یبقى التواصل بینھم في حدود ما یخص الأبناء فقط، دون خصومة أو تجریح. ھذا السلوك البسیط ینعكس إیجاباً على نفوس الأبناء ویمنحھم شعورًا بالأمان. وقد رصدت بعض الدراسات الاجتماعیة أن الأطفال الذین یعیشون في بیئة طلاق ھادئة وأخلاقیة یكونون أقل عرضة للاكتئاب والانحراف مقارنة بأولئك الذین یشھدون نزاعات حادة بین والدیھم.
بل إن بعض الأزواج، رغم الانفصال ،یظلون یتعاملون بندیة واحترام في المناسبات العائلیة، إدراكًا منھم أن الخلاف لا یلغي المشاعر الإنسانیة، وأن كرامة الأبناء مرآة لما یراه الناس من سلوك الوالدین.
ثانیاً: مبادئ التعامل الراقي بعد الانفصال
لكي یكون الطلاق نھایة حضاریة ولیست بدایة لصراع طویل ،لا بد من الالتزام بعدد من المبادئ الأساسیة:
الإحسان في التعامل: الاعتراف بفضل الآخر، وعدم إنكار الخیر الذي كان بین الزوجین ،فھذا خلق كریم یعكس نبل الشخصیة.
حفظ الصورة المتبادلة: الامتناع عن تشویه سمعة الطرف الآخر أو الخوض في تفاصیل الحیاة الزوجیة السابقة. فالكلمة الجارحة تبقى أثرھا طویلًا في النفوس.
العدل في الحقوق: الالتزام بالمسؤولیات المالیة والقانونیة، سواء فیما یخص النفقة أو الحضانة أو تقسیم الحقوق. وھنا یظھر دور القوانین التي تضمن العدل ،مثل قوانین الأحوال الشخصیة التي تنظّم النفقة وتحدد سن الحضانة وتضع ضوابط واضحة لمنع الظلم أو الاستغلال.
الرفق في القول والفعل: عدم الانجرار إلى لغة الإساءة أو التحقیر ،بل التعامل باللین والرحمة، خصوصًا في المواقف التي تستدعي اللقاءات المستمرة من أجل الأبناء.
ھذه المبادئ لیست مثالیة بعیدة المنال ،بل ممكنة التحقیق متى ما استحضر الزوجان وازع الدین والأخلاق، وعلما أن الناس تقیس رقیھّم بقدرتھم على التصرف بحكمة حتى في أحلك الظروف.
ثالثاً: الآثار الاجتماعیة للطلاق الأخلاقي
الطلاق إذا جرى وفق القیم الإسلامیة والإنسانیة، یخفف من آثار الانفصال ویحمي المجتمع من التصدعات. ویمكن إبراز آثاره الإیجابیة في عدة جوانب:
حمایة الأبناء نفسیاً وتربویاً: إذ یشعر الطفل أن والدیه ما زالا یحترمان بعضھما، فلا یفقد ثقته بالأسرة كمفھوم اجتماعي.
تقلیل النزاعات القضائیة: فالالتزام بمبادئ العدل والفضل یقلل من لجوء الأطراف إلى المحاكم وما یتبعھا من خلافات مرھقة.
تعزیز الاستقرار الاجتماعي: فالطلاق الأخلاقي یمنع انتقال الصراع من البیت إلى المجتمع، ویقلل من الإشاعات والمشاكل الممتدة.
ترسیخ ثقافة التسامح: حین یرى الأبناء أن والدیھم قادرون على إنھاء الخلاف برقيّ، یتعلمون درسًا عملیاً في التسامح والوفاء.
ولا یخفى أن للإعلام دورًا مھمًا في ھذا الجانب؛ فعرض النماذج الإیجابیة للطلاق ،بدلاً من التركیز على القصص المثیرة والمشحونة بالصراعات ،یساعد في بناء وعي مجتمعي جدید یقوم على الاحترام المتبادل ،حتى بعد انتھاء العلاقات الزوجیة.
رابعاً: لماذا نحتاج الطلاق الأخلاقي؟!
الطلاق الأخلاقي لیس خیارًا مثالیاً فحسب ،بل ھو ضرورة لحمایة المجتمع من تفكك داخلي قد یمتد أجیالاً:
لأنه یحمي الأبناء من أزمات نفسیة عمیقة قد تلازمھم مدى الحیاة.
لأنه یرسّخ مبدأ الوفاء ،حیث یحُفظ الجمیل، ویبُقى الأمل في أن العلاقة كانت یومًا عامرة بالحب.
لأنه یمنع تراكم الأحقاد والعداوات التي قد تمتد إلى العائلتین والمجتمع.
لأنه یثبت أن الطلاق نھایة عقد لا نھایة خُلق، وأن الانفصال لا یلغي القیم الإنسانیة والدینیة.
ولأنه یعكس صورة إیجابیة عن المجتمع أمام الأجیال الجدیدة، التي تتعلم أن الخلافات یمكن أن تدُار بوعي وأدب.
الخاتمة
الطلاق لیس نھایة للأخلاق ،بل اختبار حقیقي لھا. من یحسن في الطلاق ،یحسن في العِشرة، ویحافظ على سمعته وكرامته. ومن یثبت في زمن الخلافات أنه قادر على الإنصاف ،یخلدّ في المجتمع صورة مشرّفة.
فلنكن إذن من أھل الوفاء والعدل والفضل ،نغلق صفحة الزواج بسلام، ونفتح صفحة جدیدة من الحیاة بلا تشھیر أو خصومة. فالطلاق الحضاري یثبت أن الأخلاق أسمى من الخلافات، وأن المعروف یمكن أن یبقى حتى بعد الانفصال ،لتستمر مسیرة الحیاة على أساس من الرحمة والاحترام.
تعليقات