top of page

الهندسة الاجتماعي حين يُخترق الإنسان قبل الآلة

  • nourelkomy1245
  • 22 سبتمبر
  • 2 دقيقة قراءة
ree

بقلم :معمر اليافعي(ابن الحصن)


في عالم يموج بالشبكات والأسلاك والبرمجيات، نتصور أن الخطر يطلّ من شاشة مضيئة أو من سطر برمجي معقد. غير أن الحقيقة أكثر بساطة، وأكثر دهاءً: فأكثر الأبواب انفتاحًا ليست تلك التي في الخوادم والأنظمة، بل تلك التي تسكن في داخل الإنسان نفسه. هنا تتجلى الهندسة الاجتماعية، ليس كعلمٍ تقني، بل كفنّ خفي يتقن التلاعب بالثقة، ويحوّل العقل إلى بوابة مفتوحة دون أن يشعر صاحبها.


الهندسة الاجتماعية تشبه الساحر الذي لا يُخرج الأرنب من القبعة، بل يسرقه من جيبك بينما تنظر إليه مبتسمًا. لا تحتاج إلى أجهزة ولا إلى برامج، بل إلى كلمات تُقال بثقة، أو إلى رسالة تحمل قناعًا رسميًا، أو إلى لهجة مألوفة تجعل الضحية يسلّم مفاتيح عقله بطيب خاطر. إنها لعبة لا تعتمد على قوة الهجوم، بل على هشاشة الثقة.


المهاجمون لا يأتون كأشباح إلكترونية فحسب، بل كأقنعة بشرية يومية. رسالة تصل إلى بريدك الإلكتروني تدّعي أنها من مصرفك، تحمل عبارات منمقة وطلبًا عاجلاً: "حدّث بياناتك الآن". مكالمة هاتفية واثقة الصوت من "موظف الدعم الفني"، يسألك عن كلمة مرورك بدعوى إصلاح عطل تقني. فلاش ميموري "مجاني" يُترك على مكتبك، فيغريك بفتحه لتكتشف أن بداخله ليس هدية بل طُعمًا يفتح الأبواب السرية. حتى رجل يرتدي زيّ الصيانة قد يكون مهاجمًا يعرف أن الابتسامة أحيانًا أقوى من ألف برنامج اختراق.


تكمن خطورة هذا الفن في بساطته. فهو لا يحتاج إلى ذكاء اصطناعي ولا إلى خوارزميات متقدمة، بل إلى معرفة دقيقة بطبيعة الإنسان: كيف يثق حين يرى شعارًا مألوفًا، كيف يضعف حين يسمع لهجة رسمية، وكيف ينسى كل حذره عندما يطمع في عرض مغرٍ. كل ما يتطلبه الأمر لحظة غفلة، نقرة واحدة على رابط، أو رد سريع على سؤال لم يكن ينبغي الإجابة عنه. وهكذا يُفتح الباب الكبير بأبسط مفتاح: الثقة.


لكن وسط هذا الظلام، يبقى للوعي ضوء لا ينطفئ. الحذر ليس حالة من الخوف، بل هو يقظة داخلية تُعلّمنا أن نتوقف قبل أن نضغط، وأن نتحقق قبل أن نصدق، وأن نزن الكلمات مهما كانت بليغة. إنه إدراك أن الثقة هبة لا تُمنح بسهولة، وأن وراء كل استعجال مشبوه قد يكمن فخ، ووراء كل قناع رسمي قد يختبئ محتال.


الشركات والمؤسسات تعرف أن جدران الحماية لا تكفي، وأن أقوى برامج الأمن تنهار أمام غفلة موظف واحد. لذلك أصبح التدريب على اكتشاف الخداع جزءًا من ثقافة البقاء في العصر الرقمي، تمامًا كما كان تعلم القراءة والكتابة شرطًا أساسيًا للبقاء في العصور الماضية.


الهندسة الاجتماعية ليست مجرد مصطلح في كتب الأمن السيبراني، بل هي مرآة تُظهر ضعف الإنسان وقوته معًا. ضعفُه حين يمنح الثقة بلا وعي، وقوتُه حين يحوّل وعيه إلى حصن لا يُخترق. إنها درس فلسفي عميق عن طبيعة العلاقة بين الثقة والخداع، وعن كون العقل البشري هو السلاح الأول والأخير في مواجهة عالم يتقن صناعة الأقنعة.


وفي النهاية، يمكن للأنظمة أن تُبنى عالية، وللجدران أن تُشيد قوية، لكن كل ذلك ينهار أمام قلبٍ يغفو عن الحراسة للحظة واحدة. لذلك فإن أخطر اختراق لا يبدأ من الآلة… بل من الإنسان نفسه.


ابن الحصن

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page