top of page

رحلة العقل… من الطفولة إلى المعنى إلى المصالحة

  • nourelkomy1245
  • 18 سبتمبر
  • 2 دقيقة قراءة
ree

بقلم :معمر اليافعي (ابن الحصن)


بياجيه، فرانكل، ويونغ: ثلاث نوافذ على الإنسان


في زمن يتكلم فيه الجميع عن تطوير الذات، ننسى أن الذات لا تُبنى بالتنمية، بل تُفهم أولًا… تُعاش، تُراقب، تُحتضن كما هي. وهنا تبدأ الرحلة. ثلاث خطوات غير متتابعة زمنًا، بل وجودًا: أن تفهم كيف تفكر، أن تجد سببًا لتستمر، أن تواجه ما تهرب منه.


في عوالم الفلسفة وعلم النفس، يقف جان بياجيه كمنصت أول لنمو العقل البشري. لم يكن يراقب الأطفال فقط، بل كان ينصت إلى بذور الوعي فيهم، وكأن في داخل كل طفل فيلسوف صغير يتأمل الحياة بعين الدهشة. لم يرَ الطفل كنسخة غير مكتملة من الراشد، بل ككائن مفكر بطريقته، يعيد اختراع العالم بلغته. في كل حركة، في كل إجابة "خاطئة"، كان يقرأ منطقًا داخليًا يُبنى. العقل ليس وعاءً يُملأ بالمعلومات، بل كائن حيّ يتنفس وينمو. الطفل لا يتعلم لأنه يُدرّس، بل لأنه يُجرّب، يلمس، يتعثر، يسأل، ثم يكتشف. كل مرحلة من مراحل النمو المعرفي عند بياجيه ليست فصلًا بيولوجيًا، بل فصلٌ من فصول تشكّل الوعي.


لكن ماذا يحدث لهذا الوعي حين يُختبر؟

هنا يدخل فيكتور فرانكل، لا ليفكك التفكير، بل ليواسي الروح. هناك، في أقسى المعسكرات، رأى الإنسان يُحرم من كل شيء، إلا من قدرته على المعنى. لم يكن الألم هو ما يقتل، بل العبث. رأى أن من يملك سببًا للعيش، يمكنه أن يتحمل أي "كيف". لم يكن معنى الحياة نظرية، بل طريق نجاة. في عالمٍ ينهار، كان فرانكل يقول: تمسّك بشيء في داخلك، حتى لو فقدت كل ما حولك. أنت لا تختار ظروفك، لكنك تختار كيف تراها.

في لحظة الانكسار، لا يحتاج الإنسان إلى إجابات، بل إلى جدوى تبقيه واقفًا… حتى لو وحيدًا.


وحين نظن أننا عرفنا أنفسنا، يأتي يونغ، لا ليعلّم، بل ليكشف: "لم ترَ بعد سوى النصف". كل ما لم تواجهه في داخلك سيعود كقَدَر. الظل ليس شرًا، بل جزء من الذات تم تجاهله طويلًا. الغضب، الغيرة، الجرح، الطفل المهمل… كلها تسكن في الداخل كأصوات لا تُسمع. ولا يُمكن للعقل أن يكتمل دون هذه المواجهة.

يونغ لا يعدنا بالسعادة، بل بالاكتمال. لا يدعونا إلى النور، بل إلى توازن بين النور والظل. ما لم تحتضنه سيتحول إلى جدار بينك وبين ذاتك.


بياجيه بنى سلم الفكر، فرانكل أشعل نور المعنى، ويونغ مدّ يده إلى ما وراء الحجاب الداخلي. الأول يرافقنا في الطفولة، الثاني في المحنة، والثالث في النضج. الأول يسأل: كيف يفكر الإنسان؟ الثاني يسأل: لماذا يعيش؟ والثالث يسأل: من هو حقًا؟


وحين نضمّ الثلاثة في داخلنا، نبدأ برؤية الإنسان كرحلة كاملة: يولد باحثًا، يتألم سائلًا، ثم يعود إلى نفسه ليكتمل.

نعرف كيف نُفكر، لماذا نستمر، وماذا ينقصنا لنكون صادقين مع أنفسنا.

بياجيه علّمنا أن الطفل ليس ناقصًا، بل كائن يبني المنطق من اللعب.

فرانكل أخبرنا أن الألم لا يدمّرنا ما دمنا نمنحه معنى.

ويونغ همس لنا أن الحقيقة الكاملة لا تسكن النور وحده، بل في ظلالنا أيضًا.


هذا ليس درسًا نفسيًا ولا نظرية فلسفية، بل دعوة… أن ننظر في مرايا ثلاث:

طفولتنا، جراحنا، وظلالنا.

ومن يستطيع أن يمرّ عبر هذه الثلاث، لن يخرج منها كما دخل… بل أكثر قربًا من نفسه، وأكثر فهمًا للإنسان من حوله.


ابن الحصن

تعليقات

تم التقييم بـ 0 من أصل 5 نجوم.
لا توجد تقييمات حتى الآن

إضافة تقييم
bottom of page