عندما قرأت كتاب حضارة العرب
- saad25105
- 6 يوليو
- 2 دقيقة قراءة

بقلم: معمر اليافعي (ابن الحصن )
لم يكن هذا الكتاب كغيره…
لم يكن مجرد مؤلَّف من صفحات مترجمة عن حضارةٍ شاخت أو مجدٍ مضى.
كان صفعة فكرية ناعمة، حملها قلم فرنسي أنصفنا أكثر مما فعلت أقلام كثيرة من بني جلدتنا.
دخلت إلى هذا الكتاب متوجسًا…
كنت أظنه سيعيد تكرار الأسطوانة الاستشراقية البالية: العرب كغزاة، والإسلام كعائق، والتاريخ العربي كهوامش على دفاتر الغرب.
لكني وجدت شيئًا آخر تمامًا… وجدت إنصافًا نادرًا، ودهشة صادقة، ورجلًا من الغرب ينحني أمام حضارة الشرق، لا ازدراءً… بل إجلالًا.
غوستاف لوبون، المؤرخ والطبيب والفيلسوف الفرنسي، كتب كأنه استفاق من غفوة تاريخية، ليكتشف أن أوروبا لم تكن مهد العلم، بل كانت مَدينَة لرجالٍ من الشرق أضاءوا لها الطريق.
كتب عن محمد (ص) كأعظم من غيّر مجرى التاريخ، لا بالسيف، بل بالفكرة والعدل والنظام.
رآه قائدًا وناقلًا للبشرية من مرحلة إلى مرحلة، من التناحر إلى الوحدة، ومن الخرافة إلى العقل.
رأى الإسلام، لا كدين فقط، بل كمشروع حضاري عابر للزمان والمكان.
عندما قرأت هذا الكتاب،
أدركت أن العرب لم يكونوا فقط بدوًا في الصحراء ولا فرسانًا على صهوات الخيل،
بل كانوا بنّائي فكر، ومهندسي حضارة، وأطباء فلسفة، وسادة مكتبات.
كتب العرب لم تكن أوراقًا عابرة، بل كانت مراجع في جامعات أوروبا لقرون.
ابن سينا، الرازي، الخوارزمي، الفارابي، ابن رشد… هؤلاء لم يكونوا رموزًا إسلامية فحسب، بل أساتذة الإنسانية كلها.
الأندلس لم تكن فقط حضارة زائلة،
بل كانت نموذجًا فريدًا لتعايش الأديان، وازدهار العقل، ورقيّ الذوق.
كانت أوروبا حينها تظن أن المرض سببه الأرواح الشريرة، وكان العرب يُجرون العمليات الجراحية ويكتبون الموسوعات الطبية.
الفن العربي؟
لا يرسم الأجساد، بل ينقش الروح.
العمارة الإسلامية؟
ليست حجارة، بل هندسة للسكينة.
المساجد، الزخارف، المآذن، النقوش… كلها تتحدث بلغات لا تحتاج إلى ترجمة: لغة الجمال الخالص.
لم أتوقع أن أقرأ هذا من فرنسي…
لم أتوقع أن أجد هذا الإنصاف من رجلٍ لا يُشاركنا الدين، ولا اللغة، ولا حتى الذاكرة الجمعية.
لكني وجدت في هذا الكتاب اعتذارًا مؤدبًا باسم الحضارة الأوروبية، إلى أمة شوهتها الأقلام، بينما كانت تستحق وسام العقل.
في كل فصل من الكتاب، كنت أشعر أن غوستاف لوبون لا يُحدّثنا نحن العرب، بل يخاطب أمته، يهمس لهم من قلب صفحات التاريخ:
"توقّفوا عن الغرور… فأنتم مدينون لهؤلاء الذين علّموكم كيف تكتبون، وتفكرون، وتحلمون."
هو لم يُجامِل، بل كان صادقًا…
لم يُزَيّن، بل شرح بعمقٍ علميٍّ كيف نقل العرب الحضارة، وكيف أن أوروبا كانت تتلمذ في حضن الإسلام العلمي حين كانت تعاني من ظلام القرون الوسطى.
لقد جعلني هذا الكتاب أعيد قراءة نفسي وتاريخي بعينٍ جديدة.
علّمني أن العودة لا تبدأ بالشعارات، بل تبدأ من الوعي بما كنّا، وبما يمكن أن نكونه مجددًا.
إنه ليس مجرد كتاب…
إنه تذكير صارخ بأن حضارتنا لم تكن صدفة، وأن سقوطها لم يكن قدرًا، وأن نهضتها المقبلة… تبدأ من الاعتراف بأنفسنا.


تعليقات