كأس العرب في قطر… حين تبحث الأمة عن مرآتها
- saad25105
- قبل 10 ساعات
- 3 دقيقة قراءة

بقلم: معمر حسين اليافعي ابن الحصن
ليست البطولات الرياضية مجرد مباريات تُلعب على عشبٍ أخضر، ولا أصوات الجماهير مجرد ضجيج عابر. أحيانًا تتجاوز الرياضة نفسها، فتتحوّل إلى مرآةٍ تُعيد للأمم صورةً كانت غائبة عنها. وفي كأس العرب التي احتضنتها قطر، بدا وكأن العرب، الذين فرّقتهم السياسة وأثقلت كواهلهم الأسئلة الكبرى، وجدوا فجأة مساحةً ليروا أنفسهم كما يجب، لا كما تُصوّرهم الانقسامات.
في تلك البطولة، لم تكن قطر دولة مستضيفة فحسب؛ كانت أشبه بمعمَل فلسفي مفتوح، أرادت من خلاله أن تجرّب فكرة: هل يمكن للعرب أن يلتقوا دون خطاب رسمي؟ هل يمكن للهوية أن تعود من بوابة الرياضة بعدما ضاعت في دهاليز المناكفات؟ وهل يمكن لدولة أن تصنع شعورًا عربيًا كبيرًا؟ بدا السؤال أكبر من كرة قدم، وأعمق من منافسة، وأقرب إلى اختبارٍ داخلي للأمة نفسها.
لقد تعاملت قطر مع البطولة كما يتعامل الفيلسوف مع نصّه الأول: صبر، وانتباه للتفاصيل، ورغبة في أن تكون التجربة أكثر من حدثٍ مؤقت. فالملاعب ليست مجرد بنى تحتية؛ إنها رموز، تشبه الأعمدة التي يستند عليها وعيٌ جديد. والجمهور ليس مجرد كتلة بشرية؛ بل كتلة وجدانية تبحث عن معنى. وحتى المنتخبات لم تكن ألوانًا وأعلامًا، بل تمثيلات لأسئلة الوجود العربي: من نحن حين نلتقي؟ وكيف يتغير شكلنا حين نتقارب؟
وحين امتلأت الملاعب بجمهورٍ يشبه أمّةً كانت تبحث—منذ عقود—عن لحظة تجتمع فيها القلوب قبل الأيدي، بدا المشهد أقرب إلى احتفالٍ داخلي أكثر منه احتفالًا رياضيًا. كأن الهوية العربية خرجت من غيبوبتها، وجلست على المدرجات تتأمل نفسها وهي تهتف، تتنفس، تتفاعل، تتذكر. كان واضحًا أن العرب لم يفتقدوا الرياضة بقدر ما افتقدوا مساحة يلتقون فيها بلا خوف، بلا شرط، وبلا صراع على من يقود من.
وما فعلته قطر في تلك الأيام لم يكن تنظيمًا، بل إعادة ترتيب لنبض الأمة. إذ قدمت للعرب ما لم تقدمه السياسة منذ زمن طويل: مكانًا محايدًا لا تُحكمه الأيديولوجيا، بل تحكمه البساطة الأولى؛ لعبة شعبية يفهمها الجميع، لا تحتاج إلى مترجم، ولا ديبلوماسية خاصة، ولا بيانات رسمية. فقط ملعب، و90 دقيقة، ومشاعر نقيّة.
الفلسفة الحقيقية لهذا الحدث ليست في نجاحه التنظيمي، بل في التجربة الوجودية التي ولّدها. فقد كشفت البطولة أن العرب، رغم كل ما حدث، ما زالوا يبحثون عن "نحن". وأن كرة القدم—بشكلٍ يبدو ساذجًا لأول وهلة—قادرة على تقديم إجابة رمزية أكثر وضوحًا مما تقدمه المؤتمرات السياسية. ففي الملعب، يتساوى الجميع: لا حدود، لا طبقات، لا تاريخ يثقل اللحظة. هناك فقط رغبة جماعية في الفرح، وفي الانتماء، وفي اكتشاف شيء أعمق من نتيجة مباراة.
لقد كانت قطر أكثر من مضيف؛ كانت وسيطًا بين العرب وبين ذواتهم. دولةٌ أرادت أن تقول بصوتٍ خافت لكن ثابت: إن المستقبل العربي يبدأ حين نجد لغة مشتركة، حتى لو كانت كرة تتدحرج. إن المعنى القومي لا يولد في الخطابات، بل في المشاعر الصادقة. وإن الأمة التي استطاعت أن تتوحّد يومًا تحت راية الحضارة، قادرة على أن تستعيد وعيها حين تجد مساحةً آمنة للقاء.
وفي نهاية البطولة، حتى قبل أن تنتهي منافساتها رسميًا، لم تنطفئ التجربة. بقيت فكرة: أن العرب قادرون على الالتقاء حين تتوفر الإرادة، وأن قطر نجحت في تقديم نموذج فلسفي قبل أن يكون رياضيًا؛ نموذجًا يعيد للهوية العربية قدرتها على التنفس. كأن البطولة كانت تمرينًا على إعادة اكتشاف الذات، لا تمرينًا على لعب كرة القدم فقط.
ربما لا تغيّر بطولة كرة قدم مصير أمة، لكن يمكنها أن تغيّر صورتها عن نفسها. ويمكنها أن تذكّرنا بأن ما يجمعنا أكثر بكثير مما يفرّقنا. وهذا—في زمن الانقسامات—أعمق إنجاز يمكن أن يقدمه حدث رياضي واحد.
وهذا ما فعلته قطر: أعادت للعرب مرآتهم، ولو لبرهة قصيرة… لكنها كانت برهة كافية لتقول إن الأمة ليست ميتة، بل كانت تنتظر من يوقظ قلبها.
ومع بقاء كأس العرب في قلب لحظاتها، تستمر المرآة في الانعكاس… وتستمر الأمة في اكتشاف نفسها مع كل صافرة وبداية جديدة.


تعليقات