مراد أبو عيشة… حين تصير الكاميرا نافذة على الروح
- nourelkomy1245
- 28 يوليو
- 4 دقيقة قراءة

مسقط - سيلينا السعيد
في مساءٍ دافئ من أمسيات مسقط، وبين جدران الجمعية العُمانية للسينما، بدا أن الزمن قد توقف قليلًا، وأن العدسات لم تعد مجرد أدوات باردة تُسجّل الصورة، بل عيونٌ تنبض بالحياة. هناك، كان مراد أبو عيشة – المخرج الأردني الذي جاء من قلب الغربة الأوروبية محمّلًا برائحة يافا وأحلام عمّان – يقف بين الحضور كأنّه يفتح نافذة تطل على الذاكرة، على الوطن، وعلى الروح.
لم يكن لقاءه في ورشة “عدسة على فلسطين” لقاءً عابرًا؛ كان أشبه بقصيدة سينمائية، حيث امتزجت الكاميرا بالفكرة، وانصهرت الحكاية في لغة الضوء والظل. مراد، الذي درس السينما في معهد لودڤيغسبورغ في ألمانيا، لم يتعلّم هناك صناعة الصورة فحسب، بل تعلم كيف يُمسك باللحظة وكأنها ومضة من القدر. هناك، في قاعات الدراسة البعيدة، صار للكاميرا قلبٌ، وللمخرج وجدان.
طفولة تنبت في أرض الحكاية
وُلد مراد أبو عيشة في الأردن، لكن جذوره تمتد إلى فلسطين، إلى تلك الأرض التي تُعلّم أبناءها كيف يولد الحنين قبل الولادة. في طفولته، كان العالم يبدو شاشةً صغيرةً مليئة بالأسرار. حكى مراد مرةً أن أول دهشة أصابته لم تكن من كتاب أو لعبة، بل من انعكاس الضوء على جدار البيت، حين شعر أن ثمة قصةً تتسلل في كل ظل وفي كل ومضة ضوء.
تلك الطفولة التي كبرت بين حكايات الجدات وأغاني الصباح، جعلته ينظر إلى السينما لا كترفٍ بصري، بل كبحث دائم عن البيت، عن المعنى، عن الإنسان. وفي قلب تلك الحكاية الشخصية، كان الوطن حاضراً كحلمٍ مؤجل، لا يراه إلا في الصور، ولا يسمعه إلا في حكايات أهله.
دراسة السينما في ألمانيا: بين الغربة والحلم
رحل مراد إلى ألمانيا ليصقل حلمه، ودرس السينما في معهد السينما بلودڤيغسبورغ، أحد أهم المعاهد الأوروبية في هذا المجال. هناك، وسط برودة الشتاء الأوروبي، كان الشاب القادم من عمّان يسعى إلى تحويل وجع الغربة إلى صور، وصمت المدن الغريبة إلى موسيقى بصرية.
في ألمانيا، تفتحت أمامه عوالم جديدة: لغة أخرى، ثقافات أخرى، وجمهور يختلف تمامًا عن الجمهور الذي يحلم بأن يحكي له. لكنه – كما يقول – اكتشف أن لغة السينما أوسع من الجغرافيا، وأن اللقطة الصادقة تصل إلى أي قلب في أي مكان.
تلك التجربة جعلته يُدرك أن الكاميرا ليست أداة، بل ضمير بصري، تعكس ما يخفيه الإنسان من فرح وحزن، وتبوح بما لا يستطيع قوله بالكلمات.
جوائز وشهادات تُشبه الاعتراف
لم يكن طريق مراد سهلًا، لكنه كان مليئًا بالانتصارات الصغيرة التي نمت لتصبح اعترافًا عالميًا بموهبته. حصل على جائزة الأوسكار الطلابية، وشارك بأفلامه في مهرجانات مرموقة مثل مهرجان البحر الأحمر السينمائي، ورود آيلاند السينمائي الدولي، ومهرجان زلين السينمائي، إلى جانب مهرجان السينما الأوروبية ومهرجان بورتلاند السينمائي.
لكن الجوائز بالنسبة له ليست سوى أثر جانبي لشغفه. يقول: “الجائزة الحقيقية أن أرى شخصًا يبكي أو يبتسم أمام مشهد صنعته بعيني.”
إنه يؤمن أن السينما، في جوهرها، فعل محبة، وليست سباقًا للفوز. وهي أيضًا مسؤولية: أن تحكي القصة التي يخاف الآخرون أن يروها، وأن تمنح صوتًا لمن لا يملكون الكاميرا.
عدسة على فلسطين: حين تلتقط الروح ما لا يُقال
في مسقط، حين حلّ ضيفًا على ورشة “عدسة على فلسطين”، بدا مراد وكأنه يحمل معه قطعة من وطنه. تحدّث عن السينما التي تقترب من فلسطين ليس كخبر أو كصراع سياسي، بل كبيت، كأم، كأغنية. قال للحضور: “الفيلم عن فلسطين ليس عن الحجارة فقط، بل عن الطفل الذي يحلم، وعن الأم التي تنتظر، وعن العجوز الذي يروي حكايته كأنه يحمي ذاكرة الأرض.”
كانت الورشة، التي نظمتها الجمعية العُمانية للسينما، مساحة حقيقية للحوار بين العدسة والروح. لم يكتف مراد بالتدريب التقني، بل تحدث عن “الأمانة” في العمل الفني، وعن ضرورة أن تُصبح الكاميرا مرآة للحقائق الإنسانية، حتى في أصعب اللحظات.

لقاء في مسقط: بين الصوفية والصورة
في اللقاء الذي جمعني به في مسقط، بدا مراد أشبه بشاعرٍ يكتب بالكاميرا. كان يتحدث عن السينما كمن يتحدث عن الحب الأول، عن شيء يشبه العشق الصوفي. حين سألته عن سبب انجذابه إلى هذه اللغة البصرية، ابتسم وقال: “لأنها لا تكذب. الكاميرا ترى القلب كما هو، وتفضح النوايا كما تفعل القصائد.”
ذكّرني حديثه بشمس الدين التبريزي حين قال: “إذا كان القلب نقياً، كل شيء يصبح مرآة.” وكأن مراد يلتقط بهذا النقاء الصور التي تعجز الكلمات عن وصفها.
التلفزيون والفيلم: نافذة للحكاية
لا يكتفي مراد بالأفلام المستقلة أو المهرجانات، بل يرى في التلفزيون نافذة للوصول إلى الناس. بالنسبة له، الفيلم – سواء عُرض على شاشة ضخمة أو في غرفة صغيرة – يبقى فعل تواصل. “المهم أن تصل القصة إلى القلب،”
مشاريعه القادمة تحمل مزيجًا من الواقع والخيال، من الحكايات الفلسطينية إلى قصص إنسانية شاملة. وهو يرى أن التلفزيون العربي بحاجة إلى أن يتنفس جماليات الصورة، لا أن يبقى أسير الإيقاع السريع والسطحي.
شاعر الصورة وصوفي العدسة
من يستمع إلى مراد وهو يتحدث عن السينما يشعر أنه أقرب إلى شاعر أو متصوف. هو لا يطارد المشاهد المبهرة بقدر ما يبحث عن “اللحظة الصادقة”؛ تلك اللحظة التي يشبه فيها الإنسان نفسه، بلا أقنعة.
ربما لهذا السبب تبدو أفلامه كرحلة بحث عن المعنى. فيها حزن جميل، وفرح عابر، ودهشة طفل يرى العالم لأول مرة. وفي كل مشهد، ثمة سؤال يلوّح من بعيد: ما معنى أن تكون إنسانًا في هذا العالم؟
خاتمة: رسالة من قلب السينما
مراد أبو عيشة ليس مجرد مخرج أردني نال جوائز عدة ، بل روح تبحث عن المعنى في زمن الفوضى. من عمّان إلى برلين، ومن مسقط إلى شاشات المهرجانات، يحمل كاميرته كمن يحمل قلبه، يبحث عن الضوء وسط الظلال، وعن الحقيقة وسط الضجيج.
حين انتهى لقائي به في مسقط، بقي في داخلي صدى جملة قالها بهدوء:
“الفيلم الجيد يشبه موسيقى … لا تكتمل إلا حين يشاركك المشاهد فيها.”
كأن السينما بالنسبة له ليست مجرد فن، بل عبور نحو الإنسان، نحو الجمال الذي ينقذنا من العتمة.


تعليقات